2024-04-23 01:48 م

التدخلات الامريكية والفشل الذريع المتتابع

2014-09-02
بقلم:  الدكتور بهيج سكاكيني
من الواضح أن الإدارة الامريكية لم تتعظ من أن تدخلها في الأمور الداخلية للدول، لا يجلب الا المصائب لهذه الدول وعدم استقرارها، وان هذا الامر ينقلب في النهاية على الولايات المتحدة وعلى حلفائها وادواتها في تلك الدول. ولدينا العديد من الأمثلة الحية التي ما زالت ماثلة الى يومنا هذا، في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن التي تظهر مدى الفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة. وها هي السياسة المتعجرفة والمتغطرسة والخرقاء التي اتبعتها للإدارة الامريكية تدفع أوكرانيا الى حالة من التدهور والانهيار على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولقد بدأت الاحداث في أوكرانيا تتدحرج عندما قامت الخارجية الامريكية والمخابرات المركزية الامريكية بالتعاون المعارضة الأوكرانية التي خسرت معركة الانتخابات العامة بالإضافة الى أحزاب نازية وفاشية، بإسقاط حكومة الرئيس المنتخب يانكوفيتش في فبراير 2014، من خلال خلق نوع من الفوضى في البلاد تمثلت في المظاهرات والاعتصامات والاعتداء على موظفين الدولة والشرطة، على أثر توقيع اتفاقيات اقتصادية مع روسيا التي أبدت استعدادا لتقديم معونات وقروض غير مشروطة بقيمة ما يقرب من 12 مليار دولار لتفادي انهيار الاقتصاد الاوكراني. كانت الولايات المتحدة تدفع في اتجاه أن تتجه أوكرانيا الى دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. ولكن دول الاتحاد الأوروبي لم تكن على استعداد لتقديم أي دعم مالي لأوكرانيا الا في حالة استجابة الحكومة لتطبيق نظام اقتصادي تقشفي صارم بالإضافة الى إعادة هيكلة البنية الاقتصادية للبلاد، مما كان سيشكل عبئا اقتصاديا لا يحتمل للفئات العمالية الفقيرة وصغار رجال الاعمال. ولقد حاولت روسيا ومنذ بداية الازمة وحتى بعد الانقلاب على الحكومة الشرعية العمل على إيجاد مخرجا للازمة من خلال فتح باب الحوار بين الحكومة الانقلابية التي جيء بها من الولايات المتحدة والتي ضمت وزراء ينتمون الى الاحزاب النازية والفاشية، والمقاطعات في المنطقة الشرقية لأوكرانيا الناطقين باللغة الروسية مثل مقاطعتي دانيتسك ولوغانسك. ولكن بدلا من الحوار قامت الحكومة الانقلابية وبتشجيع من قبل الإدارة الامريكية وتنسيق مع المخابرات المركزية الامريكية بإرسال قطع من الجيش الاوكراني وميليشيات المجموعات والأحزاب النازية والفاشية الى المناطق الشرقية لضرب الحركات الاحتجاجية التي عمت المناطق الشرقية لاوكرانيا على السياسات العنصرية التي اتبعتها الحكومة الانقلابية ضد سكان هذه المنطق، وخاصة على أثر اعلان شبه جزيرة القرم الانضمام الى روسيا بعد اجراء عملية انتخابات عامة للسكان هناك. ولقد أدى حرق العديد من المحتجين احياء باضرام النيران من قبل المجموعات النازية وعلى مرأى ومسمع الجنود الاوكرانيين في مبنى لاتحاد عمال احدى المدن الذي التجأ اليه المحتجون العزل، الى تكوين لجان شعبية مسلحة في تلك المناطق للدفاع عن السكان المدنيين. وقد شكلت هذه اللجان الشعبية حركة مقاومة وبدأت تطالب بالانفصال عن أوكرانيا وقامت بتشكيل حكومة والاعلان عن إقامة جمهورية دونيتسك الشعبية من طرف واحد في 7 أبريل 2014 . ومنذ ذلك الحين لم تهدأ الأحوال وقامت الحكومة الانقلابية في كييف بإرسال المزيد من القوات الأوكرانية لإخضاع هذه المناطق. وقامت المخابرات المركزية الامريكية بتدريب وبتزويد المجموعات المتطرفة بالأسلحة القتالية. وعلى الرغم من تحقيق بعض النجاحات للجيش الاوكراني والمجموعات المتطرفة التي تقاتل معه في بداية عدوانها الا أنها بدأت بالتراجع والانهزام أمام ضربات اللجان الشعبية في منطقة دونيتسك في الفترات الأخيرة. ومنذ بداية الازمة عمدت الإدارة الامريكية على الضغط على الدول الأوروبية لاتخاذ مواقف متشددة من روسيا وجرتها الى تبني منظومة من المقاطعة الاقتصادية المتدحرجة، وذلك للضغط على روسيا في التخلي عن الدعم السياسي الذي تقدمه الى هذه المناطق الناطقة باللغة الروسية، وعدم تبني ما طرحته روسيا لحل الازمة والذي يتمثل بالجوهر أن تجري المفاوضات بين الأقاليم والحكومة العميلة في كييف، بهدف التوصل الى اتحاد فيدرالي بينها يراعي حقوق سكان الأقاليم. ولقد ظهرت مواقف متباينة منذ البداية للدول الأوروبية حول المقاطعة الاقتصادية لروسيا نظرا للعلاقات الاقتصادية المتينة بين العديد من الدول الأوروبية وروسيا، وخاصة في مجالات الطاقة والغاز الطبيعي الروسي الذي يصدر الى الدول الأوروبية. ويعود هذا التباين الان، ويفرض ظلاله كما إتضح في الاجتماع الأخير لدول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، حيث هددت سلوفاكيا باستخدام الفيتو إذا ما صوت الاتحاد الأوروبي على الحزمة الجديدة المقترحة من العقوبات. وهنالك حالة تململ في الأوساط الأوروبية، وخاصة لحجم الخسائر الذي تعرض لها اقتصاد الدول الأوروبية نتيجة فرض المقاطعة الاقتصادية المفروضة على روسيا، وردود الفعل الروسية على هذه المقاطعة، حيث أوقفت روسيا استيراد العديد السلع الأوروبية واستبدالها بسلع من دول أخرى خارج الدول الأوروبية. وتخشى الدول الأوروبية أن يؤدي فرضها الى المزيد من العقوبات أن تقوم روسيا بتقنين كميات الغاز التي توردها اليها وخاصة ونحن على أبواب الشتاء، مما سيؤدي الى نشوء أزمة حقيقية لديها. ولقد ارجأ الاتحاد الأوروبي فرض حزمة العقوبات الجديدة المقترحة على روسيا لمدة أسبوع، بحجة إعطاء روسيا مزيد من الوقت لرفع دعمها للجمهورية الفتية المعلنة في دانيتسك وكذلك في لوغانسك، حيث تتهم الولايات المتحدة روسيا بأرسال قوات روسية الى داخل الأراضي الأوكرانية. وتحاول أمريكا تغطية واستغلال العجز العسكري لأدواتها في أوكرانيا، بالدفع باتجاه تزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة وهو ما ترفضه المانيا خوفا من أن تعطي الانطباع من أن الاتحاد الأوروبي يأخذ المنحى العسكري لحل الازمة في أوكرنيا. الى جانب ذلك، تقوم الإدارة الامريكية الدفع بانضمام أوكرانيا الى حلف الناتو حتى يتسنى لها نشر منظومة صاروخية وقوات أمريكية على الحدود مع روسيا لفرض مزيد من تطويق روسيا وتحجيم تأثيرها ودورها في هذه المنطقة الحساسة جيوسياسيا للولايات المتحدة. وتقوم الإدارة الامريكية ووسائل الاعلام الأمريكي بضخ اعلامي مكثف لإيجاد الأرضية والمناخ السياسي العام الداعم لهذا التوجه، وذلك من خلال تزوير الحقائق ونشر الأكاذيب لتضليل الراي العام العالمي عما يدور فعليا على الساحة الأوكرانية. فقد قامت بعض الوسائل الاعلامية الامريكية بنشر صور ملفقة لجنود مدعية أنهم جنود روس يقاتلون في أوكرانيا في محاولة بائسة لإقناع العالم بأن روسيا تتدخل عسكريا ومباشرة في الصراع الدائر هنالك. ومن ثم اتهمت روسيا بإسقاط طائرة ماليزية مدنية في الأجواء الأوكرانية بصاروخ أرض-جو دون تقديم أي دليل، واثارة ضجة وزوبعة إعلامية كبيرة حول الموضوع، ليتبن بعد ذلك وبالدليل القاطع بأن الطائرة اسقطت من قبل طائرة تابعة للجيش الاوكراني. والحديث عن التلفيق الإعلامي ونشر الأكاذيب لتبرير التدخل العسكري المباشر يطول، ولنا من زوبعة أسلحة الدمار الشامل في العراق والتي أدت الى التدمير الكلي للبنى التحتية للعراق واحتلاله وقتل ما يقرب من 2 مليون من مواطنيه، وتأسيس نظام طائفي ومذهبي وعرقي مقيت. ولا ننسى الاتهامات التي وجهت للجيش العربي السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية بالرغم من وجود الأدلة على أن الإرهابيين هم من استخدمها، وبقيت وسائل الاعلام الغربية تنعق ليلا نهارا بهذه التهمة، حتى بعد نشر الأدلة على العكس من ذلك. سقطت ورقة التوت مرة أخرى عن هذا الاعلام الحاقد، الغير موضوعي، والفاقد للمصداقية والأمانة في نقل الخبر وتوخي الحقيقة، الاعلام المفبرك للوقائع والمنخرط في المنظومة الامبريالية وبوقها الدعائي. لم تترك الولايات المتحدة وسيلة الا واتبعتها لتحقيق استراتيجيتها في تلك المنطقة، غير ابهة بمصالح حلفائها، أو الاستقرار في المنطقة الأوروبية. أمريكا سعت وما زالت تسعى لجر روسيا للتدخل العسكري بالشأن الاوكراني، حتى يتسنى لها ارسال قوات الناتو والسلاح الى أوكرانيا لتصبح على أبواب روسيا. وهي تستغل الازمة الأوكرانية لبعث الحياة في حلف الناتو، وفرض سيطرتها على دول الاتحاد الأوروبي، التي لم يعد لها الرغبة أو الحماسة في تطوير القدرات العسكرية لحلف الناتو، وهذا يعود لما قد يترتب على ذلك من التزامات مالية ضخمة، ضمن اقتصاديات أوروبية ضعيفة للغاية، الى جانب القناعة التي تولدت عند البعض أن الناتو أصبح اليد العسكرية الضاربة للولايات المتحدة. وهذا ما حدا العديد من الدول الأوروبية الى تطوير علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، الذي يعتبر بمثابة صمام الأمان لهذه الدول وتشكيله مدخلا لإقامة علاقات سياسية مع روسيا مبني على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. الولايات المتحدة تسعى لتدمير هذه العلاقات الاقتصادية والاعتماد الأوروبي على الغاز المستورد من روسيا، بالرغم من عدم وجود البديل، لتبقي الدول الأوروبية تحت مظلتها وسيطرتها، وفي نفس الوقت تحجيم روسيا اقتصاديا وسياسيا، وخاصة مع تنامي الدور الروسي على الساحة العالمية وفعله الوازن في إيجاد الحلول للملفات الساخنة على الساحة الدولية. في النهاية نود التأكيد على أن ما تقوم به الولايات المتحدة في أوكرانيا لن يجلب السلام الى أوكرانيا ولن يساهم في إحلال الامن الأوروبي، فالعكس هو الصحيح. الولايات المتحدة على ما يبدو تريد ادامة الصراعات والنزاعات القائمة في أوكرانيا، حتى تزيد من اعتماد الحكومة الانقلابية الأوكرانية عليها، وبالتالي تسهيل مهمة تحقيق استراتيجيتها في المنطقة. ولكن من الواضح أن هذه السياسة لن تتحقق في ظل الانتصارات التي تحققه قوات الدفاع الشعبي في كل من دانيتسك ولوغانسك. بالإضافة الى ذلك بدأنا نشهد تصدع في الموقف الأوروبي بين مؤيد ومعارض للسياسة الامريكية. الى كل ذلك فان السياسة الامريكية الهوجاء في أوروبا أدت الى مزيد من التقارب الصيني الروسي وابرام الاتفاقية بتوريد 38 مليار متر مكعب على مدى 30 سنة قادمة بقيمة 400 مليار دولار، ويضاف اليها التصريحات الصينية بأنها ستقدم كل الدعم اللازم لروسيا التي ستمكنها من كسر العقوبات الغربية. هذه المؤشرات ان دللت على شيء انما تدل على الفشل الذريع في التعامل الأمريكي مع الازمة الأوكرانية. فشل يضاف الى فشل السياسات التي اتبعتها في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا بالرغم من حجم الدمار الذي خلفته سواء بالتدخل المباشر أو غير المباشر عبر أدواتها. والسؤال هنا هل ستتعظ أمريكا من الفشل المتتابع؟ والى متى ستبقى أوروبا تابعة ورهينة لأمريكا وسياستها الرعناء؟ وهل ستشكل الازمة الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية والسياسية على الدول الأوروبية بداية لتحولات حقيقية في العلاقات الأوروبية الامريكية؟

الملفات