2024-04-19 08:26 ص

المغترب بين مطرقة الأنين و الحنين يموت في كل يوم مرتين

2014-10-12
بقلم : دنيز نجم
هم مغتربين عن الوطن لكنهم يحملوا الوطن بين الضلوع يقتلهم الأنين و تذوب ثلوج قلوبهم على حدود وطن الياسمين . كلمة مغترب لم تعد تعكس في زمننا هذا سوى صورة خيالية في ذهن كل مواطن بقي داخل ربوع وطنه و لكن الحقيقة مختلفة تماماً عن الواقع المرّ الذي يعيشه كل مغترب فهو محسود على كل شيء حتى على الدمعة الغافية في حضن عيونه . كل مغترب ترك روحه قبل السفر تجول في ربوع الوطن بين الحارات الشعبية القديمة و جدران المنازل و لملم ذكرياته و حملها في حقيبته و رحل بجسده عن وطن مازال يعيش فيه . يتألم و لا يتكلم ينام على سرير من الشوك و لا يشكو يبتسم و قلبه يبكي يشقى و يتعب من أجل لقمة العيش الكريم و لا يقبل الذل على نفسه لأنه و إن حمل جنسية البلد التي يعيش فيها سيبقى إنتمائه الأول و الأخير لوطنه الأم الذي يخطف نبض قلبه . لا شيء يشبه الموت كالبعد عن الوطن لأنه هو الحياة بكل معانيها فنموذج الحياة في الخارج يختلف تماماً عن نموذج الحياة في حضن الوطن فالحياة الإجتماعية التي نعيشها في وطننا نفتقدها في الخارج لأنها حياة عملية شبه خالية من العلاقات الإجتماعية مقارنة مع الحياة في الداخل لأن نظام الحياة و العمل في الخارج يفرض على كل مغترب أن يعتمد على نفسه في بناء مستقبله فنصفه الأول ملك للدولة و نصفه الآخر ملك للعمل و ما تبقى منه ملك له و لعائلته و المحيطين به من حوله . يضطر المغترب في بداية مراحل اغترابه أن يلتحق بمدرسة ليتعلم لغة البلد التي يعيش فيها كي يبدأ حياته العملية أو الدراسية فيترك منزله باكراً و لا يعود إليه إلا بعد غروب الشمس ويعود متعباً مرهقاً لا يفكر سوى بالغد و كيف سيبدأ تنظيم جدول أيام الإسبوع و بعد أن ينتهي من مرحلة تعلم اللغة يبدأ بالمرحلة الثانية و هي البحث عن العمل أو تكملة دراسته بما يتناسب مع طموحه و هنا سيدخل في دوامة الغربة اللامتناهية لأن أبواب المستقبل مفتوحة أمامه على مصراعيها و لكنها في الحقيقة ليست أبواب الجنة بل أبواب غربة مميتة بلون الحياة و أكبر من غربته تسرق منه أيامه و تتركه عالق في عالم الأحلام لا يطال أرض و لا سماء . أبواب المستقبل بدايتها البنوك التي يبدأ التعامل معها لأنه تمنحه فرصة ليمتلك حساب شخصي خاص به و من بعدها تبدأ عروض ال ( Credit card ) أو ( Small loan ) و هذه عروض مالية مغرية يستفيد منها في بداية حياته في الخارج و لكنه الطعم الذي يجبره على البقاء في الخارج بشكل دائم إضافة إلى المميزات التي تمنحه إياها البلد التي يعيش فيها فمثلاً توجد عدة دوائر حكومية تهتم بالمواطن و تشده للبقاء و تمنعه من الرحيل و منها : 1- دائرة حكومية تسمى ( Employment Centre ) تهتم بمعيشة المواطن في حال فقد عمله لسبب ما و تعوضه بمبلغ مالي لمدة معينة حتى يجد عمل آخر يستقر فيه و التعويض المالي هو عبارة عن نسبة مالية تخصمها مسبقاً من معاشه الشهري و تعيدها إليه عند فقدانه لوظيفته . 2-لمن لا يجد عمل بسهولة فأيضاً هناك دائرة حكومية تعين العائلات على العيش الكريم بمبلغ شهري حتى تتحسن أحوالهم المادية و لكن ضمن شروط و تجبره المواطن على البحث عن عمل و تدعى ( The Welfare System ) . 3-دائرة حكومية يطلق عليها اسم ( Disability ) و هذه الدائرة مختصة برعاية كل مواطن لديه إعاقة سواء كانت مؤقتة أو دائمة تمنعه من العمل و لا يحصل المواطن على القبول إلا بعد أن يقدم الأدلة الطبية اللازمة التي تستوجب القبول . 4-دائرة حكومية تساعد العائلات أصحاب الدخل المحدود على تربية أطفالهم بمبلغ مالي شهري لتعينهم على تربية أطفالهم منذ ولادة الطفل حتى يبلغ عمر ( 18 ) عام و تخصص لكل طفل منحة مالية شهرية و هذه الدائرة يطلق عليها اسم ( Child Support ) . هذه الدوائر الحكومية تهتم بالمواطن ليهنئ بالعيش الكريم و هي من أحد أسباب بقاء المواطن في الخارج لأنه يستفيد منها و لكن على قدر ما تقدمه الدولة من خدمات للمواطن فهي أيضاً تحكمه بموجب قوانينها التي تسبب له الضغوط النفسية الكبيرة فمثلاً 1- هناك منظمة حكومية تدعى بال ( Children's Aid Society ) و هذه المنظمة مهمتها أن تحمي الطفل حتى من أهله إن لم يكونوا أهلاً لتربيته أو ليعالجوا المشاكل العائلية حتى يكون الطفل في وضع مستقر ينعم بالأمان و الدولة منحتهم بقوانينها سلطة عليا بإتخاذ القرار الأخير في خلع حضانة الطفل من أهله إن لم يكونوا أهلاً لتربيته و معاملته بإنسانية و هذه المنظمة تحبط المواطن العربي بشكل خاص لأنها تمنعه من ممارسة عاداته الشرقية في تربية أبناؤه الأخلاقية و الدينية في حال لاحظ أي شذوذ أخلاقي فهو ممنوع من استخدام أساليب العنف ( كالضرب أو الصوت العالي) لأنها تؤثر نفسياً على الطفل و انعكاسها على حياته في المستقبل غالباً ما يكون سلبياً و هذا ما قد يترك أثره البعيد المدى في نشأة أبناء الجالية العربية لأنهم سيتطبعوا بطبع الغرب و تختلط عليهم الأمور الأخلاقية و الدينية ما بين ( العيب و الحرام ) و لكن هناك الكثير من العائلات التي تأقلمت مع هذا الوضع و استبدلت أسلوب العنف بأسلوب علماني متحضر بالتفاهم و التقارب بالأفكار للحفاظ على الروابط الأسرية لأن العنف يخلق عدم توازن في شخصية الطفل و يزرع بذور الكره في داخله و أحياناً يكون العنف هو أحد دوافع الإنتقام عند الطفل حين يبلغ سن الرشد من مجتمعه المحيط به ليفرغ كتلة الغضب الكامنة في أعماقه من المعاملة الإستفزازية السلبية التي تلقاها في الصغر فضربت على عصب العقل حتى استقرت في الباطن و العقل الباطن غالباً ما يحتفظ بالسلبيات أكثر من الإيجابيات و التي تكبر مع الطفل عبر السنين أما أسلوب التفاهم بالعقل بأسلوب الفكر العلماني الغير متصعب أو متطرف فهو يخلق نوعاً ما رابط أسري أرقى للتعامل بمخاطبة الفكر و المنطق و أما من ناحية العادات و التقاليد فالطفل يتشربها منذ حداثة سنه بأسلوب المعاملة الحسنة دون تعصب أو تطرف . 2- الدولة تساعد البالغين الراشدين بدراستهم و تقدم لهم منحة مالية لأن التعليم في الخارج ليس مجانياً كما في الوطن . هذا ما يعانيه المغترب في الخارج و بشكل خاص في كندا و أميركا من الناحية الإجتماعية أما من الناحية الإقتصادية فكل ما حقق حلم يطمح للآخر و نجاحه بعمله يعتمد على المال و هذا طبعاً سيكون عن طريق البنك الذي يفرض عليه الدين بالفائدة فالضرائب هي من تسرق راحة بال المغترب كل ما طور من نفسه و زاد بنجاحه و الدولة هي المستفيد الأول من هذه الضرائب فعلى سبيل المثال عندما يقوم أي مواطن بشراء منزل فهناك ضريبة مجبر أن يدفعها قبل أن يستلم منزله و هذا عدا مخالفات السير أيضاً و غيرها . إذاً هنا نستنتج بالمختصر المفيد أن المغترب لا يجد المال في الشوارع و لا يحصل عليه بسهولة و إن امتلك مئة دولار في جيبه فهو سيدفع منها ضرائب لأن الضرائب مفروضة على أي مواطن في الخارج حتى على الأكل و الشرب و فوق هذه الضغوط النفسية يأتي الحنين للوطن ليسرق كل ابتسامته و لا يترك له إلا غصة تختنق في حنجرته و دمعة تسكن في مقلتيه و بين الحين و الآخر يفتح حقيبة الذكريات ليتنشق منها رائحة الوطن و يشحن قلبه بنبضة تنعشه ليعود للحياة مجدداً بعد أن يكون قد تحول لمجرد آلة كهربائية مبرمجة تعمل بانتظام دون توقف . الوطن هو نقطة ضعف كل مغترب و نقطة قوته بالوقت ذاته لأن الحنين يذيب شمعات عمره و الأنين يخطف فرحة قلبه و لا يوجد سوى الوطن ليعيده للحياة كلما فقد نبضة قلبه . حال المغترب يشبه إلى حد كبير الطير المذبوح الذي يرقص من الألم و لا أحد يدري بأنه مذبوح فالغالبية يجهلون الكثير عن حياة المغترب في الخارج و يعتقدون أنه يعيش حياة مترفة و لا يرون منها سوى الغلاف الخارجي فقط بأنه يعيش حريته كما يحلو له لأنه يكتم عنهم عذابه و يخفي آلامه كي لا يحملهم ما فوق طاقتهم و لا يعرفوا بأن المواطن العربي في الخارج يعيش بين أبناء جاليته ليحظى بدفئ محبتهم النابعة من قلوبهم الطيبة و الملتاعة من مرارة الغربة و غربة الأوطان هي من تجمعهم و يحتفظ المغترب بما تشربه في الصغر من عادات و تقاليد و يحافظ عليها لأنها الركائز الأساسية التي تحافظ على عراقة جذوره بينما البعض من المواطنين في الداخل يحاولوا تقليد الغرب بحريتهم و يدفنوا عاداتهم و تقاليدهم ليتخلصوا منها لأنها أصبحت في نظرهم ( موضة قديمة ) و الإحتفاظ بالعادات و التقاليد دون تطرف أو عقد هو واجب ديني و أخلاقي فمن ليس له ماضي ليس له حاضر و من يتنكر لجذوره فهو سيبقى كالريشة في الهواء و ستسحبه الريح بدوامتها ليبقى معلق لا يطال السماء و لن يطال الأرض . لا تحكموا على المغترب من نظرة خارجية و لا تخنقوه و تزيدوا من جروحه بل احضنوا ألمه و احضنوا الأيام القادمة معه فالمظاهر هي مجرد غلاف خارجي أما الباطن فهو المعدن الثمين و الإنسان بمعدنه و ليس بمظهره و تعمقوا بشخصية الإنسان و ليس بشكله عندما تصدروا أحكامكم فربما تجدوا فيه نسخة من ماضيكم يعيش بحاضركم و لكن بفكر علماني راقي متحضر يمد يده لكم بالحب و ليس بالمال فالمال يزول و الحب يبقى و يصنع المعجزات و نحن بأمس الحاجة لمعجزة تنقذنا من الغرق في ( الأنا ) و تنشلنا بال ( نحن ) اشبكوا الأيادي يا أبناء الوطن الواحد مع كل مغترب فمعكم و بكم يكون غداً أجمل و نصر أكبر نبني معاً وطن يتجدد بفكر علماني متحضر يحافظ على عراقة الماضي بجذوره المتأصلة فينا و المغترب مهما طالت غربته فحبال الحنين ستشده لوطنه الأم كي يعود إليه حتى و لو بعد مرور سنين فكل مغترب منا مصيره أن يعود لوطنه الأم إما ليحيا تحت سماؤه أو ليدفن بتربه الحنون الذي سيحضن من ما بقي منه في بلاد المهجر .

الملفات