2024-03-29 09:34 ص

بريطانيا: من وعد “بلفور” إلى قرار “مجلس العموم”

2014-10-28
بقلم: الدكتور مصطفى الفقي
"إنه وعدٌ ممن لا يملك لمن لا يستحق" عبارة بعث بها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إلى الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي ضمن رسائل متبادلة حول "القضية الفلسطينية" والصراع العربي "الإسرائيلي" والسياسة الأمريكية في "الشرق الأوسط" في مطلع ستينات القرن العشرين، وكان عبد الناصر يشير بهذه العبارة إلى وعد وزير خارجية بريطانيا "بلفور" في الثاني من نوفمبر عام 1917 لليهود، مؤكدًا لهم دعم لندن بتحقيق أملهم في إقامة وطن قومي لهم في "فلسطين"، وما بين وعد "بلفور" عام 1917 وقرار "مجلس العموم" البريطاني بنية الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة عام ،2014 بين هذين التاريخين مسيرة قرنٍ كامل تقريباً تغيرت فيها نظم بل واختفت دول، كما انتهى العالم من حربين عالميتين، وهنا تبقى لنا بعض الملاحظات: 
- أولاً: إذا نظرنا إلى الخريطة السياسية في العالم المعاصر والمشكلات المعقدة في العلاقات الدولية، فسوف نجد أن السياسة الخارجية "البريطانية" تستأثر بنصيب الأسد من الوقوف وراء معظمها، إذ إن القضايا المزمنة والمشكلات المعقدة هي "صناعة بريطانية" بدءًا من "كشمير" في جنوب آسيا وصولاً إلى "فلسطين" في غرب آسيا الشرق أوسطي، فالسياسية الاستعمارية البريطانية هي صاحبة الشعار الشهير (فرق تسد) وهي التي دقت أيضاً إسفين الحساسية المزمنة بين مصر وبعض أشقائها وجيرانها في القارة الإفريقية وقد أعني السودان بوجه خاص، وكأنما كان يعز على بريطانيا أن ترحل من منطقة معينة وتتركها لأهلها في "سلام" فكانت تخلف وراءها "مسمار جحا" حتى لا تنساها الشعوب ولا تغفر لها الأمم!
- ثانياً: لقد سعى الآباء الأوائل للحركة الصهيونية إلى استغلال الظروف الدولية وتطور العلاقات الإقليمية لتحقيق أهدافهم في إقامة كيانٍ صهيوني ووطن قومي على أرض فلسطين وربما في غيرها، إذ يتردد في أدبيات التراث السياسي أنهم فكروا في "شبه جزيرة سيناء"، بل وربما فكروا في دولة أوغندا أيضاً، ولكن المطلب الأساس كان يعتمد على استخدام حجج تاريخية واهية وبراهين دينية كاذبة . وقد كثف الصهاينة الأوائل جهودهم لدى محمد علي مؤسس "مصر الحديثة"، ثم في بلاط نابليون الأول والثالث، وصولاً إلى الخليفة العثماني عبد الحميد والذي ظهرت أخيراً براهين جديدة تثبت أنه لم يرفض بشكل قاطع توطين اليهود في فلسطين، بل حاول الإمساك بالعصا من المنتصف شأن الدبلوماسية التركية حتى الآن إلى أن سقط المشروع الصهيوني وحده ليستعيد قوة دفعه بعد ذلك اعتمادًا على قوى غربية جديدة في مقدمتها بريطانيا أيضاً ثم فرنسا وصولاً إلى الدعم الأمريكي المطلق لدولة "إسرائيل" .
- ثالثاً: تعتبر "بريطانيا" هي الراعية الأساسية والحاضنة الأولى لدولة "إسرائيل" فهي التي فرضت الانتداب على فلسطين وهي التي أنهته، وهي "عرابة" قرار التقسيم عام 1948 كما أن الدبلوماسية البريطانية هي التي صاغت قرار مجلس الأمن (242) ووقفت وراء غموض النص حول "الأراضي المحتلة" أو "أراضٍ محتلة"، لذلك فإن دورها في خدمة "إسرائيل" تاريخياً لا يحتاج إلى مزيدٍ من التوضيح، وقد تلقفت فرنسا دورها في خدمة "الدولة العبرية" بحماسٍ شديد كرد فعل لسياسة عبد الناصر التحررية ومساندته للثورة الجزائرية طلباً للاستقلال لذلك شاركت فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وقدمت المعونة الفنية لمفاعل "ديمونة" النووي "الإسرائيلي" قبل ذلك عندما كان "شيمون بيريز" هو عراب تلك العلاقة التي قام عليها برنامج "إسرائيل" النووي وبناء ترساناتها من أسلحة التدمير الشامل، حتى جاء الدعم الأكبر والأكثر استمرارًا وقوة وأعني به دعم الولايات المتحدة الأمريكية ل "إسرائيل" وكأنها الولاية الحادية والخمسين لديها، وقد ساندت واشنطن "إسرائيل" بلا تردد وبلا حدود في عامي 1967 و 1973 وبينهما بتعويضات خسائر "إسرائيل" في حرب الاستنزاف ومحاولة حمايتها بمبادرة "روجرز" ثم تسخير "حق الفيتو" الأمريكي في "مجلس الأمن" لإبعاد أي إدانة عن "إسرائيل" وتدليلها خارج إطار الشرعية الدولية . 
- رابعاً: إن الموقف البريطاني الجديد المرتبط بقرار "مجلس العموم" تمهيداً للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة إنما هو نتاج لتطوراتٍ كبيرة طرأت على القضية الفلسطينية والممارسات "الإسرائيلية" العدوانية ضد شعب غزة في السنوات الأخيرة، وهو ما نجم عنه تعاطف دولي كبير على المستوى الإنساني في مواجهة جرائم "إسرائيل" واستخدامها المفرط للعنف ضد الشعب الفلسطيني باعتراف الدوائر الغربية ذاتها، إن لندن تحاول الآن أن تغسل يديها تكفيرًا عن سلسلةٍ متصلة من الدعم المستمر للدولة "العبرية"، وقد جاء الوقت الذي يجب أن تخضع فيه لقوة الرأي العام العالمي الذي يتنامى يوماً بعد يوم ضد "إسرائيل" وسياساتها الخرقاء . 
- خامساً: إن التطورات الجديدة التي طرأت على القضية الفلسطينية وحجم الدعم الدولي لها مرتبط على الجانب الآخر بتطورات أخرى في الشرق الأوسط نذكر منها "ثورات الربيع العربي" ومحاولات المصالحة الفلسطينية ومخاطر إرهاب "داعش" وأخواتها في الفترة الأخيرة، لذلك لا يبدو وهمًا أن نتصوّر أن القضية الفلسطينية سوف تدخل منعطفًا مهمًا في المستقبل القريب خصوصًا بعد مؤتمر "إعمار غزة" الذي شهدته القاهرة أخيراً وحظي بإقبالٍ دولي لم يكن متوقعاً . 
. . إن التغييرات العالمية والأحداث الإقليمية تبدو مؤشراتٍ كاشفة لما وصلت إليه المواجهة بين "إسرائيل" والعرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وذلك أمر يدعونا إلى التفكير في مستقبل الدور الإقليمي لمصر وقدرتها في التأثير على مجريات الأحداث، مؤمنين بأن الدور الإقليمي لمصر هو جزء من مكانتها الدولية وقيمتها في العالمين العربي والإسلامي، كما أن قدرتها على التأثير في المجتمع الدولي تنبع أيضاً من سياستها الإقليمية قبل غيرها، وإذا كانت الدول الكبرى تقوم حالياً بمراجعة سياساتها في المنطقة فإن علينا في الجانب الآخر أن نراجع دورنا وفقاً للمستجدات التي طرأت، والأحداث التي جرت، والمواقف التي اتخذت .