2024-03-29 08:44 ص

الغاز الإسرائيلي وحلبة الصراع الجيوسياسية

2014-12-20
بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني
هنالك الكثير من الدلائل والمعلومات التي تشير وبشكل واضح أن إسرائيل تسعى لان تستخدم حقلي الغاز "تامار" و "لفيتان" التي تم اكتشافهما في مياهها الاقليمية في البحر الأبيض المتوسط لتحقيق أغراض جيوسياسية التي تعزز من مكانتها ودورها في الإقليم الى جانب تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الدول الأوروبية. ولقد تحركت إسرائيل مؤخرا مستغلة الخلافات السياسية التي افتعلها الاتحاد الأوروبي مع روسيا الاتحادية بدفع وتشجيع من قبل الولايات المتحدة التي عبثت بالأوضاع في أوكرانيا متهمة روسيا بالتدخل العسكري في أوكرانيا، والتي على أثرها قامت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية جائرة على روسيا. وتحت ضغط الاتحاد الأوروبي والابتزاز الأمريكي قامت بلغاريا مؤخرا بوقف كل عمليات الانشاء اللازمة لمد خط انابيب "ساوث ستريم" الوسي الذي كان من المفترض ان يزود العديد من الدول الأوروبية بالغاز الروسي بعد الوصول الى الأراضي البلغارية وذلك بكمية مقدارها 63 بليون متر مكعب سنويا. وهذا مما استدعى روسيا الى الغاء خط "ساوث ستريم" وتحويل مساره من الأراضي الروسية الى تركيا بنفس السعة السابقة بحيث تقوم الدول الأوروبية بشراء الغاز الروسي من تركيا. ولقد عمدت الولايات المتحدة ومنذ زمن للضغط على أوروبا وحثها على تنويع مصادر حصولها على الطاقة وخاصة الغاز بحيث تقلل من اعتمادها على الغاز الروسي، لأنها كانت وما زالت ترى ان هذا الاعتماد يؤدي الى تمتين العلاقة والشراكة الاقتصادية بين أوروبا وروسيا والتي من شانها ان تؤدي بالضرورة الى تحسين العلاقات السياسية بينهم وهذا بدوره يؤدي الى اضعاف الهيمنة والتأثير الأمريكي على دول الاتحاد الأوروبي بالإضافة الى حلف الناتو الذي اصبح في حقيقة الامر اليد العسكرية الضاربة التي تستخدمها الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية الكونية كما حصل في أفغانستان وليبيا مؤخرا على سبيل المثال. وتمثل التحرك الإسرائيلي في التقدم الى الاتحاد الأوروبي بطلب الموافقة على مقترح انشاء خط انابيب يربط ما بين حقلي الغاز الإسرائيليين الواقعين ضمن المياه الإقليمية لإسرائيل في البحر الابيض المتوسط وذلك لتزويد كل من قبرص واليونان وإيطاليا بالغاز الإسرائيلي. وبحسب التقديرات الأولية فان تكلفة هذا الخط تبلغ ما بين 3.5 الى 5 بليون يورو ويتم ايصاله الى جزيرة قبرص ومن ثم تتم الامدادات الى كل من اليونان وإيطاليا. ونظرا لوجود مشكلة فنية في هذا الخط التي تتمثل بان الجزء الذي يربط جزيرة قبرص بجزيرة كريت اليونانية سيقع في الجزء العميق من البحر فان الاتحاد الأوروبي طلب بان تقوم الجهات المعنية بدراسة صلاحية المشروع قبل الشروع في مناقشة امكانيته تبنيه من ناحية اقتصادية. وكان من الطبيعي ان يلقى مثل هذا الاقتراح تأييدا على الأقل من قبرص واليونان اللتين سارعتا عن طريق تصريحات وزراء خارجيتهما بالترحيب بالمشروع، وربما هذا يعود الى ما قد يدره المشروع من مكاسب اقتصادية للبلدين اللتين تعرضتا الى مشاكل اقتصادية حادة ولولا ضخ عشرات المليارات من اليورو وخاصة بالنسبة لليونان واتباع سياسة تقشف جذرية التي انتجت حركات احتجاجية جماهيرية واسعة لتحولت الى دولة فاشلة (هذا لا يعني خروجها من الازمة كلية). وعلى الرغم من الضجة الإعلامية التي قد تثار حول خط الانابيب هذا في المرحلة الحالية ومن امدادات الغاز الإسرائيلي قد يلعب دورا في عملية فك الارتباط ما بين أوروبا وروسيا في مجال الطاقة وخاصة بالشق الغازي منها، فانه يجدر ان ننوه الى نقاط أساسية ضمن هذا الإطار. أولهما هو أن التمويل سيكون أوروبيا بشكل أساسي على حسب المقترح الإسرائيلي وعلى ان السعة الحالية للخط المقترح لن تتجاوز ما بين 8-12 بليون متر مكعب من الغاز سنويا. وإذا ما ادركنا ان روسيا قد زودت أوروبا العام الماضي 2013 ب 161.5 بليون متر مكعب من الغاز، نرى وبوضوح ان كمية الغاز الإسرائيلي المقترح تزويد أوروبا به لا تتجاوز 7% بالمقارنة من الغاز الروسي من الأرقام المتوفرة حاليا. وإذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان روسيا تمد أوروبا بما يقارب من 30% من احتياجاتها الكلية فان النسبة المئوية للغاز الإسرائيلي بناءّ على الاحتياجات الكلية للدول الأوروبية لن تتجاوز 0.20 %، وهي نسبة ضئيلة للغاية. وبالتالي فان تأثيرها على مجمل الاحتياجات الأوروبية من الغاز وما تسعى له أوروبا والولايات المتحدة الى التنويع من مصادر الطاقة ا سيكون دورا لا يذكر. ولا شك ان الدول الأوروبية ستأخذ هذا بعين الاعتبار عند مناقشة مثل هكذا اقتراح، على الرغم من التأييد الأمريكي لمثل هذا المشروع. أما النقطة الثانية التي يجب ان ننوه لها ذات الارتباط بهذا الموضوع وهي الدراسة القيمة التي أجراها معهد اوكسفورد للطافة بعنوان " Reducing European Dependence on Russian Gas" الصادرة بتأريخ 14 اكتوبر 2014 ، التي خلصت من ان هنالك مجال ضيق ومحدود لأي انخفاض ذو أهمية لاعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي قبل منتصف 2020 ، وعلى ان الشركات الأوروبية ملزمة بالعقود الموقعة بين الطرفين على استيراد ما لا يقل عن 115 بليون متر مكعب من الغاز الروسي لهذه الفترة الزمنية وهي تشكل 75% من مستويات الاستيراد الحالية. وهذا الرقم قد يهبط الى 65 بليون متر مكعب مع حلول 2030 . وتشير الدراسة بأنه حتى لو اختفت كل العقود الطويل الاجل بين الشركات الأوروبية وروسيا، فان أوروبا بحسب الأرقام المتواضعة التي خلصت اليها الدراسة ستكون بحاجة لاستيراد 100 بليون متر مكعب من الغاز الروسي وربما سيصل ضعف هذا الرقم لغاية 2030 . وكل ذلك يشير بوضوح أن ارتباط أوروبا واعتمادها على الغاز الروسي هو كالزواج الكاثوليكي لا طلاق بينهما. ويبقى الغاز الروسي الطبيعي او المسال الذي يمكن لأوروبا ان تحصل عليه من روسيا أرخص من حصولها عليه من أي مصدر آخر. الى جانب ذلك فانه اذا ما قررت الدول الاوربية استيراد الغاز المسال من أي دولة فإنها بحاجة لبناء البنية التحتية لاستقبال هذه السلعة على موانئها وتحويلها الى الحالة الغازية وبناء خطوط امدادها وتوزيعها، وهذا لن يتم قبل بضعة سنوات. وهذه عوامل أساسية مضافة الى أهمية العلاقة بين روسيا والدول الأوروبية. وتخلص الدراسة بالقول بان المشاكل الملحة الان التي يجب إيجاد الحلول لها هي الازمة الأوكرانية والمشاكل الادارية والقانونية العالقة فيما يختص بخط الانابيب "ساوث ستريم"، ومن ثم يناقش الطرفين الأوروبي والروسي دور الغاز المستقبلي في توازنات الطاقة الأوروبية. ولكن روسيا لم تنتظر طويلا وجاء ردها أسرع مما كان متوقعا على منظومة العقوبات والمضايقات الأوروبية لخط "ساوث ستريم"، فهي الأخرى سعت وتسعى للتخلص من اعتمادها الكبير لتصدير غازها الى السوق الاوروبية. فكان ان جاءت زيارة بوتين الأخيرة الى تركيا لهذا الغرض حيث اعلن من أنقرة عن الغاء "ساوث ستريم" طالما ان أوروبا لا تريد المضي بهذا المشروع، واعلن عن توقيع اتفاقية مبدئية مع تركيا يتم على أساسها تحويل مجرى "ساوث ستريم" ليصل الى الأراضي التركية بعد مروره بالمياه الإقليمية التركية فقط في البحر الأسود مستخدما الجزء الذي تم امداده على الأراضي الروسية على ان تكون سعته نفس سعة الخط القديم (63 بليون متر مكعب)، ليبين بشكل لا لبس فيه أن روسيا عازمة من طرفها بجدية أن تنهي حالة اعتمادها أيضا على أوروبا بهذا الشأن، وخاصة لخضوع أوروبا للإملاءات الامريكية على الرغم من تضرر مصالحها الاقتصادية المرتبطة بروسيا. ومن الواضح ان الولايات المتحدة تستغل الازمة الأوكرانية التي انشأتها لتحقيق مآرب تدخل ضمن استراتيجيتها التي تتضمن محاصرة التمدد الروسي الاقتصادي والسياسي على الساحة الأوروبية والدولية، لما يؤدي ذلك من تراجع للدور والهيمنة الامريكية على الساحة الدولية وانكسار أحادية القطب التي ميزت الساحة الدولية لأكثر من ثلاثون عاما، صالت وجالت فيها الولايات المتحدة كالطاووس دون رادع للجم سياساتها العدوانية. أما على النطاق الإقليمي فلا شك ان إسرائيل تسعى لاستخدام الغاز الطبيعي كوسيلة للاندماج الإقليمي اقتصاديا وسياسيا وخاصة على نطاق تطبيع أو استكمال خطوات التطبيع مع الدول العربية. وفي هذا السياق نستطيع ان نتفهم الأهداف البعيدة المدى من الصفقة التي عقدتها مع الأردن والتي يتم بموجبها تزويد الأردن 45 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي من حقل "لفيتان" الغازي في البحر الأبيض المتوسط على مدى 30 عاما وبقيمة 15 مليار دولار. ومن الواضح ان الحكومة الأردنية ماضية في استكمال الصفقة وخاصة بعد التوقف عن تزويد الأردن بالغاز المصري على الرغم من وجود معارضة كبيرة للاتفاقية. وكانت إسرائيل قد ابرمت اتفاقية يتم بموجبها تزويد مصر بالغاز الطبيعي أيضا. في النهاية نود ان نؤكد على ان الزوبعة التي أثيرت حول الغاز الإسرائيلي ولعبه دورا في التقليل من الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي لا تتعامل مع الحقائق والأرقام والوقائع المنشورة. هذا لا ينفي المحاولات الإسرائيلية التي تسعى من خلالها ان تحول موانىء اسرائيلية الى مراكز لتصدير هذه السلعة الاستراتيجية الى الدول الأوروبية وغيرها، وذلك لإعطاء دورا وازنا لإسرائيل على الساحة الإقليمية والدولية. ولكن هذا لا يبدو انه سيتحقق على المنظور القريب أو المتوسط، وخاصة اذا ما أخذ بعين الاعتبار الموقع الاستراتيجي لتركيا التي من الممكن ان تلعب دورا رئيسيا وحلقة وصل بين الدول المنتجة والدول المستوردة. ومن الواضح انه إذا ما تمت الصفقة بين روسيا وتركيا فإنها ستشكل تحول نوعي في المنظومة الجيوسياسية الأوراسية المتعلقة بالطاقة. وإذا ما أضفنا لذلك إمكانية تحقيق خط الانابيب لنقل الغاز والبترول من ايران الى الموانىء السورية عبر الأراضي العراقية ليتم تصديره بعد دحر القوى الظلامية الإرهابية الوهابية من الأراضي السورية والعراقية وإعادة الاستقرار الى المنطقة فان ذلك سيؤدي بالضرورة الى تهميش أي دور يمكن لإسرائيل ان تلعبه في مجال الطاقة امام روسيا وايران بما يمتلكانه من احتياطات من الغاز الطبيعي.