2024-04-20 05:08 م

العالم العربي 2015: الدول vs. الجماعات

2014-12-31
بقلم: ربيع بركات
يُقفل العام 2014 على استهلاك لم نعهده لعبارات تنعى الدولة الوطنية في أجزاء معتبرة من العالم العربي. قبل نصف قرن، كان تسويق الفكرة القائلة بقرب نهاية الدولة الوطنية العربية يصب غالباً في مصلحة دعاية الوحدة القومية، فبلغ الأمر حد عدم قبول التدرج فيها، والمزايدة في طرح الحلول النظرية الآيلة إليها، من دون الذهاب بعيداً في تنفيذ أي منها باستثناء تجربة عبد الناصر اليتيمة مع سوريا العام 1958، وذلك برغم تبوّء أحزاب و»زعامات قومية» سدة الحكم في غير دولة بعد ذلك، وبسبب هذا التبوء أحياناً أيضاً.
اليوم، ثبُت أن الانهيار أكثر محاكاة للواقع من الاندماج. ولم يعد مصطلح «الدولة الفاشلة» طارئاً على أدبيات أي من متابعي شؤون المنطقة ومتوقعي المسارات المقبلة فيها. وفيما يصل تداعي الدول إلى ذرىً غير مسبوقة، يتنامى نفوذ جماعات ما دون الدولة داخل الأطر الوطنية، حتى يكاد الإثنان يستويان في القدرة على إدارة المجتمعات، سواء بحد السيف والوسائط الأكثر بدائية، أو وفق آليات حداثية في المظهر فقط.
في العراق وسوريا، ما زالت أجهزة الدولة تدفع لموظفيها رواتبهم في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة. في المقابل، يدفع تنظيم «داعش» لمقاتليه، على سبيل المثال، رواتب ثابتة تزيد عن حدها الأدنى لمحترفيه وعناصره الأكثر تدريباً وكفاءة. وفي حين أدت ضربات الدولتين العراقية والسورية للتنظيم، توازياً مع غارات «التحالف» ضد أهداف منتقاة، إلى وقف اندفاعته عند خطوط تماس ترسمها الحسابات والتوازنات، تتحدث تقارير استخبارية عن انجذاب ما معدله ألف أجنبي كل شهر للقتال في صفوف جماعات متطرفة، تشكّل «الدولة الإسلامية» أبرزها.
ثمة حال من الشد والجذب اللذين لا تحسمهما أي من أدوات القتال الراهنة ولا الإستراتيجيات المعتمدة أو الإمكانيات المتاحة، على امتداد الساحتين العراقية والسورية. وليس هذا توصيفٌ للصراع بين الدولتين المذكورتين والجماعات التي تقاتل سلطاتها وتسعى إلى الحلول مكان مؤسساتها فحسب، بل بين الجماعات المتمايزة التي بات تأثير المركز عليها هامشياً، حتى لو وقف جزء منها مع هذا المركز في بعض أشواط النزال.
ينقل الصحافي ديفيد كوكبورن عن كبير مستشاري رئيس إقليم كردستان قوله إن «داعش» كانت تهدد أربيل، فيما «البيشمركة» تهدد الموصل اليوم. الحرب هذه، مثلاً، بين جماعة تحاول النهوض بـ «دولة إسلامية» لها من البنية التحتية ما يسمح لها بإدارة موارد المجتمع في ظل الفوضى والقتال، وأخرى انبثقت عن سلطات محلية وشكلت أداتها الرئيسية لفرض نفسها كدولة أمر واقع. يحصل هذا فيما الدولة المركزية تحاول مجاراة اندفاعة الجماعات المسلحة في وسط البلاد، كأنها مجرد طرف ثالث، تضاف إليه فصائل محلية يناوئها بعضه ويثور عليها بعضه الآخر.
الأمر أكثر جلاء في وسط العراق وجنوبه، حيث تمكنت تنظيمات «رجال الطريقة النقشبندية» و»الجيش الإسلامي» و»كتائب ثورة العشرين» وخلافها، من لمِّ شمل مقاتليها واستقطاب أعداد جدد من المقاتلين، فضلاً عن إدارة بعض أحياء المدن الكبرى، ما دفع أوساطاً في الحكومة العراقية إلى التحذير من سقوط الموصل «في قبضة البعثيين» في حال انحسار «داعش»، الأكثر سطوة حتى الآن، عن المدينة. في المقابل، يخوض الجيش العراقي معركته ضد الجماعات الآنفة كتفاً بكتف إلى جانب ميليشيا «الحشد الشعبي» التي رعت انطلاقتها مرجعية النجف، وتلعب بعض القوى النافذة دور من له الكلمة الفصل على حساب السلطة المركزية في بعض المدن الكبرى، كـ «عصائب أهل الحق» التي تضخم دورها في البصرة مؤخراً.
يكاد الأمر ينطبق على سوريا بحذافيره. تقرير الاستخبارات الإسرائيلية قبل يومين تحدث عن سوريا مصغّرة ترثُ الشام الكبرى، وتُجانب مناطق واسعة تتوزع إدارتها فصائل متقاتلة: «الدولة الإسلامية» في الرقة ومعظم دير الزور وبعض ريف حلب، وقوى كردية تحمي إدارة الأكراد الذاتية في شمال البلاد وشمالها الشرقي، و»إمارةٌ» لـ «النصرة» تتنازع من أجل تثبيتها مع جملة من الفصائل الإسلامية الأخرى وكتائب «الجيش الحر»، في أجزاء واسعة من أرياف درعا جنوباً، وحلب وإدلب واللاذقية شمالاً. كل هذا في مقابل اعتماد الدولة ومؤسستها العسكرية على ميليشيات محلية رديفة مؤازرة كـ «الدفاع الوطني» وبعض الفصائل العراقية و»حزب الله» اللبناني.
في جنوب شبه الجزيرة العربية، لم يعد تفوق «الحوثيين» على الدولة مجرد تحليل أو تقدير. صارت الجماعة أكثر من دولة موازية، فلم يعد نفوذها يقتصر على مناطق تديرها ذاتياً بشبكة خدمية وبيروقراطية متشعبة، بل صارت تضع النقاط على حروف سلطة صنعاء المركزية حين تحجم الأخيرة عن أخذ مطالبها في الحسبان وتتجاوز الوقائع الصلبة على الأرض. وفي حين تتسع دوائر «القاعدة» في مناطق نائية عن العاصمة، يتابع «الحراك الجنوبي»، سلمياً، مسيرته نحو الانفصال.
وإن كان الأمر واضحاً في اليمن، فهو أكثر تعقيداً في ليبيا، حيث يتنازع المجلس الوطني والبرلمان شرعية الحكم، تسند كلاً منهما قبائل وقوى متقابلة، تنقسم على خطوط عقائدية وإثنية عمادها الصراع بين الأصوليين وخصومهم، وامتداد كل منهما على مستوى الإقليم.
وفي مقابل سطوة الجماعات في الدول الآنفة على حساب هذه الدول، تحضر جماعات مشابهة بشكل جنيني في مصر وتونس، ويستمر حضورها بشكل متفاوت في الصومال والسودان، فيما يختلف «حزب الله» عنها بتلازمه مع العملية السياسية وأركانها في لبنان، وتعرّف الخصوصية الفلسطينية دور الفصائل في غزة والضفة وعلاقتها بسلطة محلية من دون دولة.
ثمة تنافس محموم بين الدول والجماعات على امتداد مسارح عربية فقدت شرعيتها التاريخية أو تكاد. العام 2015 سيحدد المنتصر منها والمهزوم في بعض هذه المسارح، وسيعرّف علاقة كل منها بالأخرى، أو يثبته، بناءً عليه.
عن صحيفة "السفير" اللبنانية