2024-03-28 06:45 م

«داعش» تدفن «البعث العراقي» و «الثورة السورية»

2015-11-20
عبدالله زغيب
لم يشهد التاريخ الحديث فاعلاً إقليمياً وربما دولياً أكثر تناقضاً وحساسية من تنظيم «الدولة الإسلامية»، الجماعة هذه طبّقت بالفعل ما أقيمت على مبادئه دولة الاحتلال الاسرائيلي، ومن دون الحاجة لاعتراف دولي او عربي، وفي قلب التناقضات والاضطرابات التي اجتاحت العراق وسوريا. دُمجَ جهازٌ عسكري بآخر أمني، لينتج عن هذه العملية مخلوق هجين ومقوّى، على أن يكون ركيزة اساسية لدولة «الخلافة» التي راهن صنّاعها ورعاتها على تمكنها من الصمود لعقود عدة في ظل الفوضى التي ظهر للحظة أنها قد تكون «سرمدية»، أو على الأقل في ظل إدراك مدى فاعلية المقبل من أفعال «الدولة» هذه في سبيل الإبقاء على قدر مطلوب من الاضطراب المذيب للحدود، والعابر لكل الاعتبارات الجيوسياسية.
لم ينسَ كثيرون ما نشرته صحيفة «دير شبيغل» الالمانية في نيسان الماضي، للكاتب كريستوف رويتر، عن العقل المدبر لـ «الدولة الإسلامية» بحسب وثائق الصحيفة «حجي بكر»، والتي ادّعت انها حصلت عليها من بيته بعد مقتله في منطقة تل رفعت السورية على يد عناصر من «الجيش السوري الحر»، وهي مجموعة مخططات للدولة العتيدة، ورسوم لهياكلها العامة، فالعقيد السابق في الاستخبارات الجوية العراقية سمير عبد محمد الخليفاوي «حجي بكر»، انطلق من داخل سجنه الأميركي وعلى مرحلتين في بوكا وابو غريب بالتخطيط لإنشاء تنظيم يقوم بالأساس على نخبة من ضباط الاستخبارات السابقين واعتماداً على شبكة المخبرين النظاميين قبل احتلال البلاد العام 2003، حتى وصل الامر الى تنصيب «البغدادي» أميراً على الدولة بعد مقتل القياديين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر العام 2010.
اتجاه قيادات التنظيمات العراقية المسلحة والمنبثقة عن تشكيلات نظامية سابقة نحو الفكر السلفي الجهادي، لم يكن نتاج فعل إيماني طارئ، ولا سقطة تكتيكية على الإطلاق. فالحالة الطائفية الشديدة التي فرضتها نخب العراق ما بعد الغزو، أفضت الى يسر شديد آخر في حشد المتطوعين العراقيين والأجانب للقتال في صفوف المجموعات السلفية وصولاً لـ «تنظيم الدولة»، اضافة الى كون التوجّه الايديولوجي هذا، عاملاً جاذباً للتمويل العربي الآتي من منطقة الخليج وكذلك للرعاية الإعلامية التي قد تصل حد الترويج لكل ما يتصل بتنظيم «القاعدة» وادبياته، او على الأقل في شيطنة خصومه عبر استخدام السرديات التي تفضي الى تشريع «التكفيريين» اينما وجدوا. وعلى هذه الشاكلة، لا تقتل صواريخ الأنظمة العراقية والسورية والجماعات الحليفة لهما سوى أطفال ونساء من «أهل السنة والجماعة» اينما وجدوا، بينما لا يستهدف تنظيم «الدولة» ولا «النصرة» سوى تجمّعات عسكرية وأهداف نظامية.
وفي ظل تصاعد قدرة الاستقطاب هذه، كان تنظيم «الدولة» أول من أعلن وفاة «البعث العراقي» وأتمّ مراسم دفنه، خاصة بعد قتله القيادات البعثية التي لم يضمن ولاءها، او تلك التي جاهرت بعدائها لتوجّهاته، في ظل ابتلاع يومي لمكوّناته السابقة، والتي كانت تشكل الرافعة العشائرية والعسكرية والأمنية للدولة العراقية المركزية قبل العام 2003. هكذا، أضحت الادوات الميسرة لتوسيع التنظيم وفي مقدمها قانون «اجتثاث البعث» وكذلك الانهيارات السريعة للجهاز العسكري العراقي القائم، مدخلاً نحو تحوله لحاكم مطلق لبيئة «البعث»، باستخدام ما تبقى من عناصر قوته في زمن الرئيس صدام حسين وفي ظل انقلاب شامل على أدبياته ومفاهيمه. وفي لحظة انفلتت فيها «الأمة» من عقالها، أصبح «العراق العظيم» «دولة خلافة»، وباتت تشكيلات الدولة المركزية أو ما تبقى منها، من كتائب «البعث» وفرق الحرس الجمهوري كقوات «عدنان» و «المدينة المنورة» و «حمورابي» و «نبوخذ نصّر» وكذلك «فدائيو صدام»، اسماء من زمن يختلف حول قبحه او جماله «البعثيون»، كما باقي العراقيين. فقد تمكن تنظيم «الدولة» وفي زمن قياسي من تحويل مشروعه الذي بدا لبرهة من الزمن جذاباً لدى فئة معينة من المجتمع العراقي وكذلك الاسلامي، الى عامل ضاغط على الوعي، والى حالة يتمنى كثيرون لو أنها تتحول الى ذاكرة مكبوتة بين ليلة وضحاها. فـ «الدولة الاسلامية»، في شقها العراقي، باتت «عصبة عسكرية» من دون أفق سياسي او اجتماعي، يدرك الجميع تحولها الى حالة مارقة، مهما طال مرورها في الحاضرة القومية.
في الحالة السورية، لم تكن القصة أكثر سلاسة. فقد جاء تنظيم «الدولة» و «النصرة» وما شاكل من تكوينات «سلفية جهادية»، بمثابة الخبر السيئ لكل من رأى في «الحراك» الجاري (بنسخته المدنية) مقدمة لعملية اصلاح هيكلية في النظام، تفضي الى تغيير جذري في حالة الجمود السياسي المتحكم بدمشق منذ تولي «البعث» السوري مقاليد الحكم هناك. وفي ظل الانهيار السريع في المنظومة «العشائرية» المتحكمة بمنطقة «الجزيرة» السورية، وإعلان عشرات العشائر ولاءها لتنظيم «الدولة»، بات الطريق ممهداً أمام التنظيم، لإقامة مركز تحكم وسيطرة استراتيجي هادئ ومستقر نسبياً مقارنة بباقي مدن الصراع السوري. وهكذا شكلت الرقة «موصل» سورية جديدة، مدّت من خلالها وعبرها الشرايين المالية والتذخيرية والتطوعية اللازمة لعشرات الجبهات البعيدة التي انخرط فيها التنظيم لقتال الجيش السوري وتنظيمات مسلحة معارضة على حد سواء. وفي ظل الرعاية «غير المباشرة» في البعدين الإعلامي والسياسي التي تلقاها التنظيم من المحيط العربي، تحوّل في زمن قياسي الى ثاني قوة عسكرية في سوريا بعد الجيش النظامي. وقد منح طوال طريق تمدّده هذه، دعماً ذكياً من خلال الاتهام الدائم للنظام وأعوانه بالمسؤولية عن قيامه، وكذلك في التركيز على امتناع دمشق عن تحويل مجهودها العسكري الأساسي نحو البادية السورية حيث يتحصّن التنظيم. وهي معركة كانت لتستنفد مقدرات الدولة النظامية السورية، وتفتح المجال امام الجماعات المسلحة في الأرياف المحيطة بالمدن الرئيسية، للسيطرة على رقع كانت لتهدّد النظام في معقله وخلال فترة قصيرة.
وفي لحظة تجاوزت صراع السرديات، من «سردية درعا» الخاصة بالمعارضة، و «سردية العسكرة» الخاصة بالنظام، بات الواقع في الحرب الأهلية السورية أكثر ركوناً الى التصنيفات الواضحة والصريحة. فقد تم ابتلاع «الجيش الحر» وما شاكل من تشكيلات عسكرية «معتدلة» في جسد أكثر مناعة في وجه الاستثمار السياسي بعيد الأمد، حيث تمكن تنظيم «الدولة» من خلق منطقة عازلة بين «الثورة السورية المعسكرة» وبين «النخب» السياسية المعارضة المسوّقة إقليمياً ودولياً، حتى بات وجود هؤلاء على طاولة التفاوض أمراً غير مجدٍ، وارتضى الجميع وفي مقدمهم الدول العربية الراعية للفوضى المسلحة في سوريا، بدور تنظيم «الدولة» والجماعات «الجهادية» الأخرى، كقوة وحيدة يُعتمد عليها في محاربة الدولة السورية وحلفائها. وفي الطريق نحو هذه القناعة، أعادت التنظيمات هذه هيكلة الواقع العسكري السوري، حيث أضحت الجماعات العابرة للحدود وصاحبة المشاريع التاريخية (إقامة الخلافة) غير «الدنيوية»، تسيطر على نحو تسعين في المئة من كامل التراب الخارج عن سيطرة الدولة السورية المركزية.
«الدولة الإسلامية» هذه، باتت اليوم تشكل التمرين العملاني الأول في علم السياسة، لتبيان طبيعة «العنصر غير العاقل»، وهي حالة تمكنت مجموعات عسكرية عقائدية أخرى من الخروج منها مع الوقت أو الابتعاد عنها منذ تأسيسها كـ «حزب الله» اللبناني و «أنصار الله» في اليمن و «حماس» في فلسطين المحتلة. ولكثرة ما تمثل «الدولة الإسلامية» تعبير «الحالة المارقة»، فقد تسببت في مرورها غير السلس على منطقة الشام بوفاة، قد تكون نهائية، لتنظيمات ومكونات ساهمت في تأسيس الواقع العربي ما قبل «الربيع»، كحزب «البعث» في العراق. يحصل هذا في ضوء تحوُّل التنظيم الى عامل ابتزاز غربي وعربي دائم على طاولة التفاوض مع دمشق وحلفائها، وفي ظل «نشوة الاستشهاد» التي يعيشها، وفي ظل إحساسه بصلابة بعده اللوجيستي القائم على ازدواجية الخطاب وازدواجية النشاط السياسي في الدول العربية الخليجية، وفي ظل استمرار الآلة الاعلامية العربية بالتسويق لتفسيرات مذهبية تختصر طبيعة الصراعات في المنطقة، مضافة اليها منابر «الجهاد» المفتوحة حتى في المسجد النبوي والكعبة، بل حتى في مساجد اوروبا التي بُنيت وموّلت من خلال اموال النفط العربي.

عن صحيفة (السفير) اللبنانية