2024-04-23 09:53 م

بيت جحا

2016-08-25
بقلم: جميل مطر
كانت في منطقة الجزيرة القاهرية عند الطرف الغربي لجسر «قصر النيل» حديقة نموذجية يطلقون عليها اسم «حديقة الأندلس». كانت المدارس الابتدائية تنظم الرحلات لزيارتها مع الطلب إلينا نحن التلاميذ أن نرسم لوحات تصور جوانب من الحديقة مثل فسيفساء مدرج الحمام والأرائك الأندلسية، وعند العودة إلى المدرسة نكتب عنها موضوعات إنشاء.
كنا، فور إطلاق حريتنا في الحديقة، نتسابق زملائي وأنا في اتجاه الجانب الشمالي، حيث يوجد «بيت جحا». هناك أقام المهندسون الزراعيون غابة من نباتات بدت لنا في وقتها كثيفة بجدران مرتفعة تقطع بين أحواضها ممرات تتداخل وتتشابك بشكل يحرّض التلاميذ الذين يدخلون فيها على بذل جهد جسدي وعقلي للبحث بين الممرات عن الممر المؤدي إلى باب الخروج، باب غير الباب الذي دخلنا منه. ندخل «بيت جحا» من باب الدخول ويمشي كل منا في ممر اختاره اعتقاداً أنه الأقصر والأسرع. يتوه من يتوه وكثيراً ما انتهى التائه قاعداً على الأرض في انتظار من ينقذه فيدله على الطريق إلى باب للخروج.
أليس حالنا اليوم كحال هؤلاء التلاميذ الذين دخلوا إلى «بيت جحا» ومشوا في دهاليزه فضاعوا فيها؟ ها نحن قاعدون نفكر في طريقة تنقذنا فتدلنا على أقرب طريق يؤدي إلى باب الخروج من نظام دولي شديد الاضطراب والفوضى ومن نظام إقليمي هالك أو موشك على الانفراط. أتصوّر، وقد أكون مخطئاً فالمعلومات ناقصة إما لأنها محظورة أو لأنها متضاربة إلى حد أن بعضها يلغي البعض الآخر، أتصوّر أنه لا يوجد في الشرق الأوسط اليوم مَن يستطيع أن يعلن بكل الثقة الممكنة أنه اكتشف الطريق أو الطريقة المؤدية إلى باب الخروج.
أتفهّم قلق شباب باحثين في شؤون الشرق الأوسط وبخاصة في حال النظام الإقليمي العربي. هؤلاء الباحثون يجتهدون في بذل محاولات شبه يائسة لفهم علاقات إقليمية في إقليم لا خريطة له. كنا قبل أربعة عقود ندرس علاقات إقليمية في إقليم له خريطة وله منظمة إقليمية تتبادل معه تأكيد الهوية وفيه علماء تكامل ومفكرون قوميون هدفهم تجسيد هذه الهوية. كانت هناك خريطة تحدد بوضوح حدود العالم العربي. داخل الدائرة دول عربية تتشابك في نزاعات وتوافقات وخطط تكامل وشبكة طموحات بعضها مشروع وعلمي ومدروس بعناية وبعضها من صنع واهمين. خارج الدائرة دول جوار أغلبها يتعامل مع أقاليم أخرى تعاملات أكثر من تعاملاتها مع الإقليم العربي. لم نكن نهتم بدراسة علاقات دول الجوار إلا في ما يخصنا. كانت شأناً ثانوياً في ميدان البحوث العربية.
سمعنا من بعض المسؤولين العرب عن آمال في أن تكون تركيا الأردوغانية باب خروج. شخصياً أظنّ أن تركيا حظيت بقدر مبالغ فيه من اهتمام غير مدروس وبغير سند تاريخي واضح من جانب معظم حكومات المنطقة العربية. أظن أيضاً أن هذا الاهتمام هو أحد أسباب الارتباك السائد حالياً في معظم دوائر صنع القرار السياسي العربي. كانت بعض حكوماتنا «قاعدة» في ممرّ من ممرات قصر التيه والضياع في انتظار مَن يدلّها على باب الخروج حين فاجأها الرئيس التركي الطيّب أردوغان بحركة مسرحية في أحد مؤتمرات دافوس أثارت رأياً عربياً كان خاملاً، وكان المطلوب عربياً أن يبقى خاملاً لأطول فترة ممكنة. بعدها بدا أن الحركة المسرحية فاجأت الرئيس أردوغان نفسه فراح يبعث ببواخر ومتطوّعين لدعم شعب غزة، فارتفعت أسهم تركيا ومعها أسهم نظام شرق أوسطي على حساب النظام الإقليمي العربي وظهرت خرائط شتى تقزم الخريطة العربية. بتركيا الجديدة ظنت قيادات عربية أن باباً للخروج ظهر على مرمى البصر. جاءت بعدها سنوات معدودة حافلة بالأزمات والمشاكل كشفت للقادة العرب وغيرهم أن لتركيا عوالم أخرى أشد أهمية لها من العالم العربي، وأن تركيا وحدها تعجز تحت وطأة أزماتها عن أن تكون باباً لخروج أحد من ورطاته.
صدرت بعد تركيا تلميحات بأن الطريق إلى باب الخروج ربما هو ذاك الذي يمر عبر الكرملين وبالتحديد، حيث يقع مكتب الرئيس فلاديمير بوتين. تحولت القوافل من دروبها تلك الموصلة إلى أنقرة لتسلك دروباً متوجهة إلى موسكو وسان بطرسبرغ. وفي الأعقاب خرج علينا من يبشّر أو يُنذر بأن طريقاً يجري تمهيده على وشك أن تفتتحه طهران ويؤدي إلى باب متصل بأبواب خروج أخرى لم تدخل يوماً في حسبان عربي أو أعجمي. زدنا ضياعاً حين تجمّعت لدينا خيوط. لعلاقات سوف تجمع روسيا بتركيا وإيران. هذه الشبكة، في رأي البعض، تستطيع وحدها تغيير الوضع في سوريا إلى حال أفضل