2024-04-19 11:33 م

تنافس روسي الماني على أوروبا "الرجل المريض"

2016-09-16
سركيس أبو زيد
مما لا شك فيه، أن أحداث الشرق الأوسط وبخاصة الأزمة السورية، أرخت بظلالها السوداوية على أوروبا، التي تشهد خوفاً كبيراً على تغييرها الديمغرافي وعلى الهوية القومية الأوروبية، وتغييراً في مشهدها السياسي المتمثل بصعود اليمين المتطرف ووصوله إلى السلطة في معظم الدول الأوروبية على وقع الضربات الإرهابية، التي تقف أوروبا عاجزة عن ردعها أو الحد منها، الأمر الذي سيبدل الخارطة السياسية الأوروبية ووجها الليبرالي. وهكذا تحولت أوروبا الى " الرجل المريض" نتيجة ازمة الإرهاب والمهاجرين .

فأوروبا الليبرالية، تغيرت، ولم تعد كما كانت، ولن تعود، وأصبحت ترتدي ثوب التشدد اليميني المتطرف. ولا  تخفي زعامات الأحزاب الليبرالية والتقليدية خشيتھا على مستقبل المشروع الأوروبي والديموقراطية المھددة بتصاعد النزعات الشعبوية واليمينية القومية. الأمين العام لمجلس أوروبا ثوربيورن ياغلاند يرى أن:"ھذا التحول في اتجاھات الرأي العام يضع أوروبا في وضع خطير جد اً".
عدوى المد الشعبوي انتقلت إلى دول أوروبا الشرقية أيضاً مثل ھنغاريا وبولندا والتشيك والنمسا والسويد وصربيا، ووصلت الشعبوية حتى إلى ھولندا التي عرفت طوال عقود بميلھا إلى الليبرالية، وكذلك إلى الأنظمة الاشتراكية الديمقراطية في شمال أوروبا. يقول الباحث في علوم الاجتماعيات دومينيك شنابر في "لوفيغارو" الفرنسية: "منذ انھيار جدار برلين، وتحولات الاقتصاد المعولم تعصف بالمشروع الأوروبي، الخيبة تدفع إلى التقوقع والطعن في كل من يعتقد أنه مسؤول عن إخفاقھم والحد من طموحاتھم، وفي أزمات الھوية يبحث الساخطون والمھانون عن مذنبين ومسؤولين".

 ونتيجة لذلك، تمكن العديد من ھذه الأحزاب المتشددة من الوصول إلى الحكم بعد فوزه في الانتخابات العامة. في بولندا فاز الحزب القومي اليميني المتشدد للمرة الثانية العام 2015 ، وفي سلوفاكيا يقود السلطة حزب اليسار الديمقراطي (سيري) بزعامة الشعبوي روبرت فيتسو للمرة الثانية، وفي اليونان ائتلاف سيريزا اليساري الراديكالي بزعامة تسيبراس، وفي ھنغاريا حزب الاتحاد المدني الشعبوي (فيدس) بزعامة فيكتور أوربان للمرة الثانية وبغالبية برلمانية ساحقة. في جمھورية التشيك يترأس البلاد السياسي اليساري الشعبوي ميلوش زيمان. في إسبانيا حصد حزب بوديموس الشعبوي وللمرة الثانية على التوالي في الانتخابات العامة نسبة تصل إلى 27 في المئة ليصبح الرقم الصعب الذي من دونه لا يمكن تشكيل حكومة.

أما في ألمانيا، فالمشهد السياسي فيها مختلف، باعتبارها حامل لواء الانفتاح على اللاجئين وتقديم المساعدات لهم. لكن مراقبين للمشهد السياسي الألماني يعترفون، أنها تتغير. فأنجيلا ميركل المرأة الحديدية التي قادت ألمانيا على مدى ثلاث ولايات متتالية بدأت تخسر وتتراجع، وبدأ العد العكسي لخروجھا من السلطة، فما حققته سياسة الترحيب باللاجئين "المنفلتة" أنھا أدت إلى صعود لم يسبق له مثيل لليمين المتطرف في ألمانيا. وتمثل ھذا الخطر الجديد - القديم بصعود حزب البديل لألمانيا إلى برلمانات في عدة ولايات ألمانية وبنسبة تكاد تعادل النسب التي حققھا الحزب الديمقراطي المسيحي. وكان من نتائجھا أن تشكلت حركة "مناھضة أسلمة أوروبا" وتحالفھا مع حزب البديل لألمانيا، وعودة نشاط اليسار المتطرف بقوة، وخصوصا نشاط جناح الجيش الأحمر الذي أعلن اعتزاله السياسة في تسعينات القرن الماضي.
صحيفة "ھاندلز بلات" الاقتصادية المرموقة كتبت مقالاً بعنوان "كارثة ميركل" قالت فيه إن سياستھا تجاه اللاجئين كانت "ساذجة" بتقدير غالبية الناخبين. وأضافت "لم تكن ميركل في الأشھر الأخيرة على مستوى الزمن، ولا على مستوى المسؤولية". وقال يورغ مويتن من قادة الحركة اليمينية إن البلاد تشھد قطيعة سياسية، وليس كثيرا القول بأن لھذا بعداً تاريخيا."

وھيمن النقاش الوطني حول اندماج اللاجئين على الرھانات المحلية وتحرك مجددا حلفاء المستشارة الألمانية في بافاريا الذين يعارضون منذ أشھر سياستھا حول الھجرة. وبدأت ميركل، وتحت ضغط حزبھا الديمقراطي المسيحي، وفي ظل الانتقادات العلنية لحليفھا البافاري الاتحاد الاجتماعي المسيحي سد أبواب الھجرة الواحد بعد الآخر. وصار الشعار الرئيسي لھا ھو وقف تدفق المزيد من المھاجرين عبر البحر المتوسط وطريق البلقان، كما سعت إلى اتفاقية اللاجئين المعروفة مع تركيا بھدف وقف موجة اللاجئين مقابل حفنة مليارات من اليوروات.
في المقابل، وعلى الحدود مع أوروبا، يقف بوتين مراقباً للوضع متصيداً الفرصة المناسبة ليعيد لروسيا ثقلها السياسي في الوجود الأوروبي، فهذه الحالة التي تتخبط فيها أوروبا وتقف فيها عاجزة عن وقف العمليات الإرهابية داخل بيتها الأوروبي، استغلها بوتين، خصوصا مع صعود اليمين المتطرف الذي ينسج بوتين مع قادة هذه الأحزاب علاقات ومصالح، متطلعاً إلى تنامي قوتھا ونفوذھا واستقطابھا المزيد من التأييد والدعم مع تزايد العمليات الإرھابية وامتدادھا إلى المدن الأوروبية الصغيرة أيضاً، بعد أن ظلت تُدمي المدن الكبيرة، ينفذھا لاجئون جدد وأحفاد مھاجرين من ستينات القرن الماضي.

الكرملين في حربه مع الغرب والاتحاد الأوروبي ينتھج سياسة القوة الناعمة حيث ينسج علاقات مصلحة مع الأحزاب الشعبوية اليمينية في أوروبا، ويقدم الخدمات المختلفة والتمويل المالي لھا بأشكال مختلفة. يقول الباحث المجري بينار كريكو:"لا شك في أن النفوذ الروسي العلني مفاجئ".
بوتين ينظر إلى موجات اللاجئين والمھاجرين التي تغرق أوروبا من جانب، وانتشار إرھاب "داعش" وعجز منظومات الأمن الأوروبية عن مواجھته فرصة لا تعوض لحلفائه من اليمين الأوروبي المتطرف والشعبوي لكسب المؤيدين والأنصار من بين الناقمين والساخطين على سياسات الھجرة والأبواب المفتوحة التي تنتھجھا المستشارة ميركل والمفوضية الأوروبية، واستثمارھا في حملاتھا الانتخابية للفوز بالسلطة وانتھاج سياسات ترسم مسارات جديدة في العلاقات مع روسيا.

ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة صوفيا أوغنيان مينتشيف "أن تأجيج النزاعات داخل أوروبا ھو أمضى سلاح لبوتين"، وقال: "ينفق الرئيس الروسي ثروات روسيا في تمويل حملات البروباغندا الدولية، كما أن أمواله تغذي شبكة واسعة من السياسيين اليساريين والمغامرين والمتطرفين في أوروبا".
يقول الباحث كريكو: "بوتين يتملق للأحزاب الشعبوية في أوروبا بزعانفھا المتعددة القومية المتطرفة واليسارية الراديكالية التي تحولت إلى أحد أكبر تحد للاتحاد الأوروبي بعد الإرھاب". ويقول: "بوتين يجھد من أجل استخدام ھذه الأحزاب لإضعاف أوروبا وتقسيمھا".
يستعين بوتين بوسائل وأدوات الحقبة السوفياتية لكسب الحلفاء في أوروبا بما فيھا الأحزاب الاشتراكية التي كانت شيوعية وتبنت أيديولوجية الاشتراكية الدولية لتمرير سياساته ضد الغرب ولإحداث تبدلات جوھرية في السياسة الخارجية لھذه الدول التي تحولت منابرھا ووسائل إعلامھا إلى حاضنات للبوتينية ومدافعة عنيدة عن المصالح والسياسات الروسية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
باختصار، تريد موسكو تشكيل جبھة مشتركة مع ھذه الأحزاب بھدف قلب موازين أوروبا وقيمھا الليبرالية، ومعادلاتھا السياسية الداخلية، كمقدمة لفصلھا عن الحلف الأطلسي والولايات المتحدة".