2024-04-19 06:58 م

رؤية 2030.. فاتحة خير أم المسمار الأخير

2016-12-27
في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي أرسل الملك عبد العزيز مؤسس السعودية، ابنه الأمير فيصل بصحبة مهندس البترول الأمريكي "كارل تويتشل" إلى لندن، آملا أن توافق الحكومة البريطانية على إقراض السعودية نصف مليون جنيه إسترليني للتنقيب عن البترول المتوقع وجوده بكثافة في أراضيها، نظير أن تحتكر الشركات البريطانية حقوق التنقيب، لكن لندن أجابته بأن الظرف الراهن لا يسمح بإهدار الأموال في دولة غير معروفة. (دولة غير معروفة) هكذا وُصفت السعودية في التقارير الرسمية البريطانية في مطلع الثلاثينيات. لكن عبد العزيز نجح في إقناع الأمريكان بتمويله لتحصل شركة California Arabian Standard Oil على امتياز التنقيب، ومع استمرار تدفق البترول ومعه المال ينتقل مقر الشركة من أمريكا إلى السعودية وتغير اسمها إلى American Oil Company-Arabian ... "أرامكو". وتمر السنين وتتحول "أرامكو" إلى أحد أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم، وتتحول معها السعودية من دولة "غير معروفة" إلى أحد أغنى بلدان العالم. وصاحَب الطفرة الاقتصادية تنامٍ مطرد في الدور السياسي والثقافي للسعودية في الإقليم، وبمرور العقود أصبحت الرياض هي اللاعب الأبرز في المنطقة، وهيمنت الثقافة السعودية على الشارع العربي، حتى في مدن أعرق منها بمئات السنين، فالنفوذ السعودي المدعوم بمال النفط كان حاضرا متوغلا في كل العواصم العربية بشكل لا يمكن إغفاله. يمر الزمان ويجلب معه لمملكة النفط ما جرى على الأمم السابقة، بدأت السعودية في المعاناة من أزمات اقتصادية، وهو ما لم يكن في الحسبان (على الأقل الآن) لكن انخفاض سعر البترول وما أنفقته الرياض في حروب اليمن وسورية، فضلا عن ثورات الربيع العربي وما صاحبها من مخاوف آل سعود من وصول الاضطرابات إلى أراضي المملكة دفعهم إلى رفع بدل البطالة من 1500 ريال شهريا إلى 9000 ريال في بعض الأحيان، وهو ما ألقى عبئا إضافيا مفاجئا على الموازنة العامة.  تضافر تلك العوامل عجّل بدق ناقوس الخطر وبدأت كلمة "العجز في الموازنة - وإجراءات تقشف" تتردد وبقوة لأول مرة في السعودية. تزامنت الأزمة الاقتصادية مع بزوغ نجم الأمير "محمد بن سلمان" الذي ما إن تولى أبوه الحكم حتى بدأ اسمه يلمع في الصحافة السعودية متجاوزا ابن عمه ولي العهد الأمير محمد بن نايف. ورغم أن بن سلمان لم يتلق أي تعليم بالخارج مثل أقرانه، بل درس القانون بجامعة السعود بالرياض، فإن ذلك لم يحل دون توليه مناصب عدة فهو وزير الدفاع والطيران، والأمين العام للديوان الملكي، ووزير الدولة المستشار الخاص للملك، ورئيس المجلس للشؤون الاقتصادية والتنمية وأخيرا ولي ولي العهد، والأقاويل تصب في أنه هو الملك القادم، خصوصا مع تسرب تقارير عن اعتلال الحالة الصحية لولي العهد محمد بن نايف. ظهر بن سلمان في المشهد بدورين، الأول دوره في حرب اليمن كوزير دفاع، والثاني دوره الاقتصادي فى نقل رؤيته لمستقبل المملكة 2030 وهو الملف الأخطر بالنسبة لمستقبل المملكة السعودية. سلمان وضع ما سماه "خطة التحول الوطني" والتي قد تغير شكل المملكه تماما بالشفاء تماما من إدمان النفط وتحويلها إلى "قوة استثمارية وإنمائية" ومركز للتبادل التجاري، في محاولة لجعل السعودية أكثر حداثة. المفارقة أن "بن سلمان" سافر إلى أمريكا مثلما سافر جده "فيصل" في الثلاثينيات وربما لنفس السبب، لإقناع الأمريكان بالاستثمار في بلاده، وها هي الشركة السعودية الأم "أرامكو" التي أسسها الجد لتطوير المملكة، يأتي الحفيد ليبيع نصف أسهمها ولنفس السبب أيضا.. "تطوير المملكة". 
وفي سبيل تحقيق طموح بن سلمان بتحويل السعودية إلى دولة استثمارية منفتحة ولعبور الأزمة الاقتصادية اتخذ سلمان قرارات قد تغير شكل المملكة جذريا، بل وقد تخلّ بتوازنات قامت عليها بالأساس. فالرجل قرر رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية والكهرباء والمياه تدريجيا خلال خمس سنوات، وهو القرار الذي أثار غضبا شعبيا في ظل وضع اقتصادي حرج، ثم اتخذ خطوة أبعد في مجال الاستثمار، حين قرر أن يكون إسناد المشاريع الكبرى بالأمر المباشر منه هو، متجاوزًا الشركات الكبرى المملوكة لأسماء معروفة، والتي دأبت على أخذ المناقصات والمشاريع وتوكيل منفذين من الباطن لها، اليوم قرر بن سليمان أن يكون منه للمنفذ مباشرة، والبعض يرى أن تصفية "شركة سعودي أوجيه" العملاقة المملوكة لرفيق الحريري حدثت لهذا السبب تحديدا، ومن المتوقع أن تلحق بها "شركة بن لادن" أحد أكبر وأعرق الشركات بالمملكة بها هي الأخرى. المشكله هنا أن توزيع المشاريع على تلك الشركات الضخمة كان يتم وفقا للمحاصصة.. سياسة تساعد على ضبط التوازنات القبلية والعائلية بالمملكة، ورغم أن ما يقوله بن سلمان من أن المشاريع كانت بابا خلفيا للفساد، صحيحٌ، إلا أن خطوة كتلك قد تتجاوز آثارها السياسية فوائدها الاقتصادية. لكن قطار "بن سلمان" وصل إلى محطة أكثر خطورة، وهي العمالة الوافدة وقرر تطبيق برنامج "المقابل المادي" عليها بدءًا من الشهر القادم. والبرنامج الجديد يرفع رسوم الإقامة التي كان صاحب العمل يسددها عن كل عامل لديه من 200 ريال شهريا إلى 400 العام القادم وفي 2020 تصل إلى 800 ريال شهريا (أي أربعة أضعاف المبلغ الحالي). أما الزوجة والأبناء فبعد أن كانت إقامتهم تجدد مجانا، قرر "بن سلمان" أن على كل منهم أن يدفع 100 ريال شهريا وتزيد سنويا حتى تصل إلى 400 ريال شهريا في 2020 لكل فرد في العائلة! وبالقطع تلك أرقام باهظة، لن يستطيع أغلب أصحاب المحلات أن يدفعها للعمالة الأجنبية لديهم. 
 باختصار "بن سلمان" يريد أن يتخلص أو يقلص العمالة الأجنبية بالبلاد، في نفس الوقت يرفع مستوى كلفة المعيشة بالمملكة وعليه ينفق المغتربون أموالهم داخل السعودية (أسوة بدبي مثلا) مع استقطاب مزيد من الاستثمارات الغربية (مثل دبي أيضا) وبهذا تتحول بلاده من الاعتماد على النفط والعمالة الأجنبية إلى دولة استثمارية مفتوحة تعتمد على سواعد أبنائها. البعض يرى ما يفعله "بن سلمان" قفزةً للأمام، فالمملكة متخمة بعمالة زائدة، تزامنا مع ارتفاع نسبة البطالة بين أهل البلد، وأنه بذلك القرار لن تبقى على أرض السعودية إلا الكفاءات التي تحتاج إليها سوق العمل فعلا، وأنصار هذا الرأي يرددون دوما أن "بن سلمان" لا يعمل وحده، بل يعتمد على فريق من الشباب الدارس بأعرق الجامعات الأجنبية، فضلا عن أن الرؤية وضعها ويشرف عليها شركة "ماكنزي آند كومباني" العالمية للاستشارات الإدارية، وإن كانت الشركة بعد الزوبعة التي حدثت حولها قد أصدرت بيانا نفت فيه علاقتها الرسمية بالمملكة. على الجانب الآخر يرى معارضو خطة "بن سلمان"، أن ما يفعله الرجل في حلمه رؤية 2030 لا يعدو كونه مجرد جباية للمال ومغامرة ومخاطرة غير محسوبة العواقب، ممكن أن تدمر الاقتصاد تماما، محذرين من أن المملكة بها 8 ملايين وافد، وأغلبهم أصبحوا جزءًا من النسيج الاجتماعي وضلعا اقتصاديا لا غنى عنه، تفكيكه بهذه السرعة سيسبب مشكلات اجتماعية واقتصادية لا حصر لها، بل إنها قد تعصف بالمملكة تماما. المفارقة هنا هى التشابه بين وضع "بن سلمان" في السعودية ووضع "جمال مبارك" فى مصر، كلاهما كان الحاكم الفعلي للبلاد على حياة عين أبيه، وكلاهما حمل مشروعا طويل المدى لتطوير البلاد وتغيّرها تماما. أما جمال مبارك فها قد أبصرنا خاتمته، لكن من يدرى لعل "بن سلمان" يكون فاتحة خير على "آل سعود" أو لعله يكون المسمار الأخير.