2024-04-26 12:30 ص

أوروبا والتحديات: ما مستقبل الديمقراطية في أوروبا

2017-01-13
بقلم: سركيس أبو زيد
تحديات كثيرة تعيشها أوروبا، فقد أرخت أزمات العالم العربي بربيع ثوراته المشؤومة وخاصة ما يجري على الساحة السورية بظلالها على كامل القارة الأوروبية، والتي أسفرت عن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي تحت وطأة أزمة اللاجئين التي أحيت حلم اليمين المتطرف في سنة 2016، وبرزت الأزمة المالية والاقتصادية التي لا تزال دول الاتحاد الأوروبي المتعثرة تواجه تبعاتھا منذ العام 2009. تحديات لم تكن في الحسبان قد تؤدي إلى تفاقم الأوضاع بدلاً من حلحلتھا في 2017، والسنوات اللاحقة. يضاف إليها توسيع بوتين ساحات المواجھة الساخنة مع الغرب لتمتد بالإضافة الى أوكرانيا وجورجيا وسوريا الى منطقة البلقان التي يريدھا منصة جديدة لعودة بلاده الى لعب دور محوري في الساحة الدولية.

أھم ھذه التحديات:
1-    قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بعد حملة تضليل وكذب ناجحة قام بھا الشعبويون، أنتج صدمة كبيرة في القارة العجوز، لكونه يشكل، سياسياً، انتصاراً خطراً للمعادين للمشروع الأوروبي، واقتصادياً خسارة مالية كبيرة للجانبين، حيث أكد خبراء أن البريطانيين سيكونون أكبر الخاسرين من"البريكزيت" في نھاية المطاف.
2-    أما التحدي الثاني فهو فوز المرشح الجمھوري دونالد ترامب بكرسي الرئاسة الأميركية رافعاً شعار"الولايات المتحدة أولا"، ومھدداً بالابتعاد عن أوروبا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً بھدف ابتزازھا بدلا من التعاون المتكافئ معھا.
3-    ظهور شقوق في جدران منظومة القيم الأوروبية، فقد كشفت الأزمات المتلاحقة عن ثلاثة تصدعات جدية استفزت تساؤلات ملحة عما إذا كان الأوروبيون سيتمكنون من ترميمھا، ومنع توسع أبعادھا ونطاقھا، للخروج باتحاد أقوى في مواجھة متغيرات جيوبوليتيكية خطيرة وإرھاب معولم، بحيث لا تترنح أمام تسونامي التحديات والارتدادات التي تفرزھا مجتمعات الشرق الأوسط الغارقة في نزاعات مسلحة وحروب أھلية:
-    التصدع الأول يتمثل في الانقسام الحاصل بين القوميين المتشددين المناھضين للمشروع الأوروبي الذين يدعون إلى إغلاق الحدود الوطنية وإعادة العمل بإجراءات الرقابة والتفتيش، والقوى السياسية والفئات المجتمعية التي تلح لوضع سياسة أوروبية موحدة لمواجھة الآتي الأعظم.
-    التصدع الثاني يتمحور حول فكرة ورؤية الحرب ضد الإرھاب، حيث تقف أوروبا بمواجھة أزمة تعد الأخطر من نوعھا منذ الحرب العالمية الثانية، وھي تعي جيداً أن الولايات المتحدة ليست لديھا لا الرغبة ولا الإمكانية التي تتيح لھا أن تلعب دوراً محورياً في حلھا، لذلك على الأوروبيين أن يعتمدوا على أنفسھم في حماية أمنھم القومي.
-    التصدع الثالث في العلاقات بين الدول الأعضاء يرتبط في شكل وثيق بأزمة اللاجئين وتأثيرھا على مقومات الأوضاع الداخلية والعلاقات مع دول الجوار، وذلك على خلفية السجال المحتدم حول أولوية الأمن على حساب الحريات الفردية وحقوق الإنسان، وكذلك تفعيل الدور الأوروبي في تسوية الأزمات الدولية وصياغة وتشكيل العالم المعاصر، ما يقودنا إلى واقع أن الرؤية التي سادت بعد الثورات الملونة في أوروبا الشرقية وتركيزھا على تحويل مجتمعاتھا في القرن الواحد والعشرين من أنظمة ديكتاتورية قمعية إلى ديمقراطيات تعتمد التعددية والسوق الحرة وتكون نموذجاً يلھم المجتمعات الأخرى في الشرق قد تراجعت ولم تعد على جدول الأعمال الأوروبي تحت ضغط الفوضى التي يصدرھا الشرق الأوسط، والتي ضربت بما أفرزته من آثار وردود أفعال الوحدة الأوروبية، وھزت منظومات القيم الأخلاقية والحضارية الأوروبية، ما أدى إلى تحول الميل إلى اليمين المتطرف واقعا في أوروبا على خلفية مكافحة الھجرة، واقتحم اليمينيون المتطرفون وأحزابھم صلب السياسة الأوروبية كناخبين متمردين على حكم الأغلبية الاشتراكية أو يمين الوسط، مستخدمين اللاجئين عنواناً رئيسياً، لتحقيق مكاسب انتخابية، ليس آخرھا النمسا والدنمارك. ھذه الأحزاب معارضة للوحدة الأوروبية، وترفع شعارات استعادة قوة الدولة الوطنية.

ولا تخفي زعامات الأحزاب الليبرالية والتقليدية خشيتھا على مستقبل المشروع الأوروبي والديمقراطية المھددة بتصاعد النزعات الشعبوية واليمينية القومية، وينسج بوتين شبكة علاقات ومصالح وثيقة مع قادة الأحزاب القومية المتطرفة متطلعاً إلى تنامي قوتھا ونفوذھا واستقطابھا المزيد من التأييد والدعم مع تزايد العمليات الإرھابية.
فبوتين ينظر إلى موجات اللاجئين والمھاجرين التي تغرق أوروبا من جانب، وانتشار إرھاب "داعش" وعجز منظومات الأمن الأوروبية عن مواجھته كفرصة لا تعوض لحلفائه من اليمين الأوروبي المتطرف والشعبوي لكسب المؤيدين والأنصار من بين الناقمين والساخطين على سياسات الھجرة والأبواب المفتوحة التي تنتھجھا المستشارة ميركل والمفوضية الأوروبية، واستثمارھا في حملاتھا الانتخابية للفوز بالسلطة وانتھاج سياسات ترسم مسارات جديدة في العلاقات مع روسيا.
فإلى ما قبل عقدين ونصف من الزمن، كانت دول أوروبا الشرقية، التي انتفضت على أنظمتھا الشيوعية والتي وصفھا وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد بـ"أوروبا الجديدة" في تصورات الأميركيين، مجموعة من الأمم الشجاعة المحبة للحرية والحليفة الوفية للولايات المتحدة والغرب. آنذاك سارعت واشنطن إلى ضم ھذه الدول إلى حلف الأطلسي لكي تصبح الحصن المنيع ضد اتساع خطر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط والتوسع الروسي. الآن لم تعد التصورات ھي ذاتھا، وشھدت تقلبات وتبدلات عميقة، وتتزايد الأدلة والوقائع عن قيام غالبية دول ھذه المنطقة التي كانت في المدار السوفياتي، باستغلال التدھور الحاصل في العلاقات بين الغرب وروسيا لعقد اتفاقيات اقتصادية منفصلة في انتھاك فاضح للعقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا بسبب عدوانھا على أوكرانيا وضمھا القرم إلى الاتحاد الروسي.

فھل هذا يعني أن دول أوروبا الشرقية والوسطى ستتخلى شيئاً فشيئاً عن النموذج الديموقراطي الليبرالي؟
ھذا السؤال أكثر ما يشغل مراكز البحوث الاستراتيجية الأوروبية منذ أن بدأت ظاھرة "أوربان" القومية المتطرفة تنتشر في دول المنطقة، وانتقلت إلى بولندا وسلوفاكيا وتشيكيا والآن إلى حد ما بلغاريا، التي يجمع بينھا إرث شيوعي مشترك، وفي كرواتيا تولت السلطة حكومة قومية محافظة يمسك حقيبة الثقافة فيھا وزير لا يخفي إعجابه بنظام الأوستاشي المؤيد للنازية أثناء الحرب العالمية الثانية على حد قول مدير البحوث في معھد الدراسات السياسية (سيانس بو) في باريس جاك روبنيك.

يرصد المحللون انسداد أفق المشروع الأوروبي في دول منطقة البلقان الغربي لأسباب عديدة ربما أھمھا برأيھم "غياب الرؤية الأوروبية الواضحة عما ينبغي عمله في ھذه المنطقة". يقول رئيس "معھد الدراسات الإقليمية والدولية" الذي مقره صوفيا البروفيسور أوغنيان منتشجيف "إن عدم توجيه المفوضية الأوروبية وھيئاتھا المتخصصة لانتقادات حادة واستبدالھا بأخرى باھتة الى حكومات دول ھذه المنطقة، ومن ضمنھا بلغاريا للسياسات التي تنتھجھا وتتعارض مع المبادئ والقوانين الأوروبية المشتركة وإخفاقھا في إصلاح المؤسسات القضائية وفرض سيادة القانون ومكافحة الفساد، يعكسان شيئاً واحداً وھو أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يعير الاھتمام والانتباه المطلوبين لإنجاز أو استكمال العمليات الاندماجية والانتقالية الديمقراطية للبلدان التي نالت العضوية، أو أن السقف المطلوب لم يعد عالياً كما كان في المرحلة الأولى بعد نيل ھذه الدول العضوية". وبرأيه فإن "ما حدث في اليونان كان مؤشراً إلى الأزمة التي يعيشھا النموذج الأوروبي للوحدة والبناء الديمقراطي والتنمية".

وبالتالي فإن إخفاقات الاتحاد الأوروبي في تفعيل مشروعه الاندماجي في البلقان، وعدم فھم قياداته متغيرات العولمة وحاجات ھذه المجتمعات الخارجة من رحم الاستبداد الشيوعي، وارتكاباته السياسية وأزماته الاقتصادية المتراكمة مع انتھاج سياسة غير شعبية للھجرة واللجوء مؤطرة بضعف الأمن على خلفية تنامي الإرھاب المعولم، أفقدت المشروع الأوروبي عنصر الجذب وھالة التفوق والنجاح، وفتحت ثغرات لا حصر لھا لاختراقات بوتين سياسياً واقتصادياً وثقافياً ودعائيا، وتسخيرھا كأدوات إضافية لتقويض المشروع الأوروبي في البلقان.

ويتفق العديد من المحللين الأوروبيين على أن انجذاب دول أوروبا الشرقية إلى روسيا لا تحدده أو تمليه فقط الروابط التاريخية العريقة بين الجانبين، بمقدار المخاوف والھواجس من المجھول، مع تزايد التصدعات التي يعيشھا النموذج الليبرالي الديمقراطي الغربي بعد الأزمات المالية والاقتصادية وفتح الحدود أمام مئات آلاف اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا وتسببھا بانقسامات حادة بين حكومات الدول الأعضاء وبين قيادة الاتحاد ونشوء تيارات وجماعات عنفية في مجتمعات ھذه الدول سرعان ما جذبت إليھا مؤيدين وأنصاراً من فئات ھامشية ومحدودة التعليم، بحيث ارتفع منسوب تأثيرھا بالتوازي مع تنامي التھديدات الإرھابية التي تنفذھا شبكات "داعش" و"القاعدة" والذئاب المنفردة.
فقد لعبت موجات اللجوء والھجرة الجماعية، وفي شكل خاص من سوريا ودول الشرق الأوسط تأثيراً سلبياً ومعاكساً لدى مجتمعات دول البلقان التي لم تشھد من قبل مثل ھذه الظاھرة التي دفعتھا الى اتخاذ مواقف عنصرية أججتھا الأحزاب الشعبوية التي تعادي المشروع الأوروبي أصلا.
ومع ذلك، نجد أنه من المبكر استنتاج تبلور نموذج سياسي غير ليبرالي في أوروبا، على خلفية صعود نفوذ اليمين المتطرف في أوروبا الغربية، حيث تغني ھذه الديموقراطيات الناشئة خارج السرب بإطلاقھا شعارات ترفع لواء السيادة الوطنية والمشاعر القومية والحصانة المسيحية ورفض التعدد الثقافي والقيم الديمقراطية.
بسبب الأرهاب وانتشاره وبسبب العنصرية وتناميها، وحدة أوروبا ومصير الديمقراطية فيها على المحك. فإلى أين تتجه أوروبا في المستقبل؟ سؤال تجيب عليه تطورات الصراعات في أوروبا وجوارها.
المصدر/ العهد