2024-04-19 07:31 م

«القنوات الخلفية» في صراع الشرق الأوسط

2017-06-11
عزت ابراهيم
انشغل العالم بقصة الجدل حول ما يسمى بـ «القنوات الخلفية» فى علاقة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وفريق حملته الانتخابية وبين المسئولين الروس حتى وصل التصعيد إلى الكونجرس الأمريكى بعد إقالة المدعى العام وإدلائه بشهادة أمام المشرعين يوم الخميس الماضي. القنوات الخلفية تعنى أساسا إنشاء قناة اتصال مع حكومة أخرى أو مع ممثلر حكومة أخرى، وهى سرية، لا تمر عبر القنوات الدبلوماسية، ولا تستخدم السفراء أو أساليب التواصل الرسمية. غالبا ما يستخدم الرؤساء تلك القنوات عندما يريدون إبقاء اتصالاتهم ومقترحاتهم سرية بعيدة عن أقسام أخرى من الجهاز البيروقراطي، التى قد لا تكون داعمة لمبادرة السياسة بعينها أو ببساطة الحد من مسألة التسريبات- عندما يحتاج الأمر فقط إلى وجود مجموعة محدودة من الناس على معرفة بالاتصالات من أجل حماية المفاوضات الحساسة جدا، ولكن سيكون لتلك المفاوضات نتائج جيدة فى الغالب. 

وقد استخدم كل رئيس أمريكي، بشكل أو بآخر تلك القنوات الخلفية، فالرئيس نيكسون استخدمها للانفتاح على الصين. وكانت هناك قنوات خلفية مع هو تشى مينه خلال حرب فيتنام واستخدمها باراك أوباما للتوصل إلى اتفاق مع حكومة راؤول كاسترو فى كوبا. والواقع أنه فى حالة كوبا، استخدم كل رئيس تقريبا تلك القنوات- منذ أن استخدم آيزنهاور الاتصالات السرية- بسبب الحساسية السياسية فى التفاوض مع الكوبيين على مر أكثر من خمسة عقود. 

الجدل اليوم حول إساءة استخدام القنوات الخلفية من قبل شخصيات لم تكن قد وصلت للسلطة بعد، والحالة الاكثر شهرة بالطبع هى قيام ريتشارد نيكسون بدور فى محادثات السلام بين الفيتناميين الشماليين والجنوبيين، بينما كان لا يزال مرشحا للرئاسة فى عام 1968. حالة جارد كوشنر مستشار البيت الأبيض تتميز عن الحالات الكلاسيكية الأخرى فى أن دونالد ترامب لم يكن رئيسا بعد. كان رئيسا «منتخبا» يحاول بوضوح إقامة قناة سرية للتواصل مع الروس أثناء حديث متصاعد عن تدخل الكرملين فى الانتخابات الامريكية. 

وفى التاريخ الدبلوماسي، أثناء مؤتمر فيينا (1814-1815)، عقب الحروب النابليونية التى تهدف إلى إنهاء الملكية الأوروبية، حاولت النمسا وبريطانيا وروسيا وفرنسا بناء توازن دولى لنظام السلطة فيما بينها لمنع نابليون من تحدى الملكيات الأوروبية. وأثناء المفاوضات حول النظام الدولى الأساسي، تمكن تشارلز دى تاليراند، المبعوث الفرنسي، من التفاوض على معاهدة دفاعية سرية بين النمسا وبريطانيا وفرنسا ضد بروسيا وروسيا. وبعد مائة سنة، كشفت محفوظات التاريخ الدبلوماسى عن ثلاثة أمثلة مترابطة لدبلوماسية «القنوات الخلفية» المتعلقة بالشرق الأوسط وهي: مراسلات حسين- مكماهون، واتفاق سايكس-بيكو، والترتيبات الفرنسية- الروسية بشأن فلسطين. 

فى الصراع الدائر على أصعدة عدة فى الشرق الأوسط اليوم تبرز «القنوات الخلفية» باعتبارها كانت الرصيد الحقيقى لإمارة قطر الصغيرة والتى روجت لها قنوات دبلوماسية ومراكز ابحاث أمريكية فى مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي. كانت الدوحة ترغب فى استغلال سياسة الدبلوماسية الخلفية الهادئة حتى تعزز أوراق اعتماد قطر كمحاور فعال بين المتنازعين الذين لا يستطيعون ذلك، والانخراط بسهولة فى الحوار المباشر بين تلك الأطراف. وساد الاعتقاد أن قطر يمكن أن تؤدى دورا مهما عبر القنوات الخلفية من أجل تسهيل وصول واشنطن إلى من صنفتهم باعتبارهم «مجموعات معتدلة» والترويج لدمجهم فى المشهد السياسى فى بلدانهم، وهو ما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين سواء فى مصر أو فى دول أخري. على سبيل المثال، وصف تقرير لمركز كارنيجى فى واشنطن والمقرب من الإدارة الديمقراطية السابقة الحالة القطرية واعتبارها أداة للسياسة الأمريكية (سبتمبر 2014) حيث قال: «على الرغم من أن قطر من غير المرجح أن تستعيد تماما سمعتها قبل الربيع العربى بصفتها وسيطا دبلوماسيا، ينبغى على المسئولين الأمريكيين والقطريين أن يستطلعوا كيف يمكن أن تشارك قطر بشكل مثمر فى مجموعة من القضايا الشائكة، مثل الحوار مع إيران بشأن القضايا النووية، والاستقرار السياسى فى أفغانستان بعد انسحاب القوات الدولية عام 2014 والمحادثات مع الجماعات الإسلامية فى سوريا ومصر، والصراع الإسرائيلى «الفلسطيني». 

الدور الوظيفى للنظام القطرى فى «القنوات الخلفية» ربما حقق فوائد للدولة العظمى الأولى وربما جنت من روائه مكاسب فى عهد أوباما إلا أن الدور لم يعد صالحا فى بدايات فترة حكم ترامب، ولابد من اجراء تعديل فى وظيفة الأسرة الحاكمة فى الدوحة يتناسب مع المتغيرات ومن ثم رفع غطاء الدعم الأمريكى تمهيدا لتغيرات جوهرية فى الدور المنوط بقطر فى المرحلة القادمة، ولم تنس الولايات المتحدة أن تضع دولا حليفة لها مثل تركيا معادلا للتحركات التى تقوم بها مصر والسعودية والإمارات والبحرين لعزل حكومة قطر بعد أن تقدمت تلك الدول بأدلة الثبوت ضد سلطة حاولت أن تستخدم جماعات مارقة وخارج سلطة الدول فى تنفيذ لعبة إقليمية خطرة تضع الإمارة الثرية فى موضع القيادة. عندما كبر الدور على حجم الدولة الصغيرة انقلب القنوات الخلفية إلى قنوات رعاية للتنظيمات المتطرفة ومخلب قط ضد شعوب المنطقة العربية، وأحد عوامل عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط. اليوم، توازن واشنطن بين دعم مطالب الدول القائدة للتحرك ضد قطر، وبين توفير دعم للسلطة فى الدوحة يتناسب مع ما قدمته من خدمات جليلة على مدى أكثر من عقد كامل من خلال تحريك دول حليفة لحماية الأسرة الحاكمة.. والنتيجة أننا سننتظر غالبا وقتاً أطول حتى تحسم الأمور مع الدوحة! 

قصة القنوات الخلفية فى الشرق الأوسط ثرية ومثيرة وتحتاج إلى استفاضة فى التناول والشرح وربما إلى عمق أكبر فى التناول، فكل القرارات والمخططات المصيرية فى المنطقة جرت فى القنوات الخلفية وكل الاتفاقيات التى شكلت الجغرافيا والتاريخ جرت خلف الستار! 

ezzatibrahim@yahoo.com
"الاهرام"