2024-03-29 02:48 م

العقوبات الامريكية الجديدة على روسيا وتداعياتها على الدول الأوروبية

2017-08-04
بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني
بات توقيع الرئيس ترامب على حزمة العقوبات التي تضمنها مشروع القرار الذي صوت عليه أغلبية النواب في الكونغرس الأمريكي بأغلبية ساحقة من قبل الحزبين الديمقراطي والجمهوري بحكم المؤكد. وهذه العقوبات موجهة الى أية أعمال اقتصادية أو مالية أو صناعية التي من شأنها ان تساهم في" تقديم المواد أو الخدمات أو التكنولوجيا أو الدعم لبناء أو تحديث أو اصلاح الانابيب التي تستخدم لتصدير الطاقة الروسية". ومن المعروف أن روسيا تعتبر من أكبر المصدرين للطاقة التي تمد أكبر سوق للطاقة وهي دول الاتحاد الأوروبي. والجزء الأكبر من هذه التجارة تشمل المصدر الرئيسي للطاقة الأوروبية الا وهو الغاز الذي يصل الى أوروبا عبر خطوط أنابيب من روسيا. وبالتالي فان هذه الأنابيب تشكل شريانا حيويا ليس فقط للاقتصاد الروسي بل وللاقتصاد الأوروبي أيضا. ومن هنا فإن أية ضرر يعود على عمليات الصيانة أو التحديث أو التطوير أو توسيع الشبكات سيكون له مردودات سلبية للغاية على أمن الطاقة الأوروبي. ومن شأن هذه العقوبات أن تضرب خط الانابيب نورد ستريم 2 الذي تشرف على انشاءه وتطويره كل من روسيا وألمانيا وهو الخط الذي يتفادى الأراضي الأوكرانية لضمان وصول الغاز لأوروبا دون مشاكل أو ابتزازات أمريكية غير مباشرة وخاصة بعد أن قامت الولايات المتحدة بتغيير النظام عبر ثورة ملونة فيها عام 2014 والمجيء بحكومة موالية وتابعة لها والتي ضمت ولأول مرة أحزاب نازية وفاشية. وبحسب المعلومات المتوفرة فإن سعة هذا الخط تقدر بحوالي 55 بليون متر مكعب سنويا والتي من المخطط أن تضاعف لتصل الى 110 بليون متر مكعب وذلك بإضافة خطين للشبكة الحالية. ولكن ونتيجة للضغوطات التي مورست على الاتحاد الأوروبي من قبل الإدارات الامريكية فان الخط يعمل فقط 22.5 بليون برميل من سعته. وبالتالي فان الأوليغاركية الامريكية ( كبار شركات الطاقة والطبقة السياسية الغنية ) قد لعبت دورا مدمرا على كل من دول الاتحاد الأوروبي وروسيا. وهي بهذا تعمل على تحقيق أكثر من هدف فهي: أولا تعمل على ضرب الاقتصاد الروسي مما قد يؤثر على دوره على الساحة الدولية فقد رأينا أنه عندما كان الاقتصاد الروسي منهارا أيام السكير الرئيس يلتسن استطاعة الولايات المتحدة ومن خلال البنك الدولي والمستشارين الأمريكيين أن يخضعوا روسيا البلد الغني بثرواته الطبيعية وبإرثه الحضاري للمشيئة الامريكية. ولم تتمكن روسيا الدولة العريقة أن تقف في وجه أمريكا في مجلس الامن الدولي عندما غزت العراق عام 2003 . ولكن الان كل هذا تغير وأفضل برهان على ذلك الموقف الروسي تجاه سوريا واستعداد بوتين للمضي بعيدا في الوقوف أمام العنجهية والتسلط الأمريكي التي كانت من خلاله تسعى لإسقاط الدولة السورية. وهي ثانيا تريد أن تستمر في سلب القرار الأوروبي المستقل وبالتالي إبقاء دول الاتحاد الأوروبي تحت مظلتها العدائية تجاه روسيا الاتحادية وإحدى الأساليب هي دفع الدول الأوروبية الى عدم الاعتماد على الغاز الروسي وتحفيزها على تنويع مصادر الطاقة التي تحصل عليها. وفي عام 2014 وبضغط من الولايات المتحدة قامت المفوضية الاوروبية في بروكسل بالضغط على الحكومة البلغارية بالتراجع عن الاتفاقية التي أبرمتها مع شركة غازبروم الروسية باستخدام احد المواني البلغارية ضمن خط ساوث ستريم لنقل الغاز الروسي الى الدول الأوروبية متجاوزا الأراضي الأوكرانية مما دعا بوتين الى إعلان موت هذا الخط والشروع بالمباحثات مع تركيا لاستبداله بما سمي تيركش ستريم. أمريكا تدفع الدول الأوروبية لاستيراد الغاز من الأمريكي وأيضا من أدواتها في المنطقة بالرغم من ارتفاع التكلفة إذا ما قورنت بالغاز الروسي. وفي آخر زيارة للرئيس ترامب الى بولندا قدم الوعود بجعل بولندا محطة لتوزيع الغاز المسال الأمريكي الى الدول الأوروبية. وهذه الخطوة هي إحدى سبل ضرب الدول الأوروبية ببعضها البعض وتقليص قدراتها على الوقوف في وجه أمريكا وتعريض أمن الطاقة الأوروبي للخطر. وليس سرا على أحد أن الولايات المتحدة عمدت بالضغط على الدول الأوروبية لإدخال العديد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الى الاتحاد الأوروبي وهي اليوم تستخدمها لعدم تمرير أية قرار في الاتحاد الأوروبي وخاصة تلك التي تتطلب إجماع دول الاتحاد الذي قد يسبب ضررا للمصالح الامريكية بأي شكل من الاشكال. ه ذا بالإضافة الى استغلال أراضيها لتطويق روسيا بالقواعد العسكرية لحلف الناتو وتهديد الامن القومي الروسي. بحسب الطبقات السياسية الحاكمة في أوروبا إن شعار أمريكا أولا " أمريكا أولا" الذي أطلقه ترامب جهارة أثناء حملته الانتخابية يجب ان لا يكون مرادفا الى "أوروبا ثانيا" أو " أوروبا لا شأن لها بالموضوع". وبحسب وولفجانج أيشنجر وهو رئيس احدى المؤسسات التي تعنى بالأمن الأوروبي وتعليقا على خط الانابيب نورد ستريم 2 قال " إن هذه مسألة يجب أن لا تقرر في واشنطن. فهي مسألة أوروبية التي يجب ان يقررها الأوروبيون بناء على القوانين الأوروبية". وهنالك العديد من الأوروبيين أصبحوا يتحدثون جهارة عن استخدام وتطبيق القوانين الامريكية خارج الولايات المتحدة متجاوزة ومتعدية على القوانين السارية في الدول الأخرى وذلك في محاولة لتحقيق مصالحها الانانية وضرب مصالح حتى من تسميهم بحلفائها. بعض القياديين في أوروبا كانت ردودهم على مشروع قرار العقوبات الأمريكي قوية وتدلل على غضب وسخط شديد. فقد صرح وزير الخارجية الألماني أن هذا " من غير المقبول من الولايات المتحدة أن تستخدم العقوبات كأداة لخدمة مصالح الصناعات الامريكية". أما وزير الخارجية الفرنسي فقد أدان تطبيق القوانين الامريكية على البلدان الأخرى وقال بهذا الخصوص " لحماية أنفسنا من تأثير تطبيق القوانين الامريكية خارج نطاق الأراضي الامريكية يجب علينا تعديل القوانين الفرنسية والأوروبية". كما وصرح أحد المسؤولين الفرنسيين بأن " القانون الأمريكي يستخدم لكسب أسواق والتخلص من المنافسين. يجب علينا أن نصحو لما يجري حولنا وأن لا نكون سذج". وهنالك العديد من البنوك الأوروبية التي قد تتعرض لدفع غرامات نتيجة تعاملها بالدولار الأمريكي في تعاملاتها وتحويلاتها المالية إذا ما تبين أن هذه المعاملات المالية قد خالفت العقوبات المفروضة أمريكيا تبعا للقانون الأمريكي. هنالك اسبقيات في هذا المجال. ففي عام 2014 قام أحد أكبر البنوك الفرنسية بدفع غرامة قدرها تسعة بلايين دولار لأنه قام بتحويلات بالدولار الأمريكي في تعاملاته مع دول خاضعة للعقوبات الامريكية. هذا بالرغم من أن التحويلات التي أجراها هذا البنك قانونية تحت القانون الفرنسي. أما البنك الألماني دويتش بنك فقد جابه غرامة بقيمة ما يقرب من 14 مليار دولار بالرغم من أن قيمة البنك لا تتجاوز أربعة مليارات ونصف. وبالتالي لا غرابة في أن تجابه حزمة العقوبات الجديدة بحزم من قبل دول الاتحاد الأوروبي وخاصة من المانيا المستهدفة من قبل إدارة ترامب أكثر من غيرها. ولكن السؤال يبقى الى أي مدى تستطيع الدول الأوروبية مجابهة الولايات المتحدة على أرض الواقع؟ وخاصة وأن الحزمة الجديدة من العقوبات سيكون لها الأثر الكبير على العديد من الشركات الأوروبية العاملة في مجال الطاقة وكذلك المؤسسات المالية وخاصة البنوك والاستثمارات الأوروبية في مجالات الطاقة مما سينعكس سلبيا كما ذكرنا على أمن الطاقة الأوروبي. للأسف التجارب السابقة تدلل أن هذه القارة العريقة بتاريخها وإرثها الحضاري والإنساني تم إخضاعها سياسيا وأمنيا واقتصاديا للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من بعض عدم التوافقات في بعض الأحيان مع سياسة الهيمنة والتسلط الأمريكي عليها الا أن الأصوات الأوروبية ما زالت خجولة ولا ترتقي الى المستوى المطلوب للدفاع عن المصالح الأوروبية. وربما ما حصل في أوكرانيا عام 2014 وتبعاته على الدول الأوروبية والتي لعبت الولايات المتحدة الدور الأكبر فيه خير دليل حديث على ذلك، هذا الى جانب إقحام حلف الناتو كأداة طيعة للمآرب والمصالح الامريكية والإبقاء على حالة عدم الاستقرار في القارة الأوروبية تحت الحجج الواهية بتصوير روسيا وكأنها على قاب قوسين من ابتلاع بعض الدول الأوروبية وغزوها عسكريا. ما تطالب به بعض دول الاتحاد الأوروبي للان هو محاولة تعديل بعض بنود مشروع القرار الأمريكي لهذه العقوبات للتخفيف من تأثيراتها على الاقتصاد الأوروبي وأمن الطاقة الأوروبي وليس رفضها جملة وتفصيلا حتى تلك التي تتعدى على سيادة دول الاتحاد الأوروبي والقوانين العاملة على أراضيها. والى أن تصل دول الاتحاد الأوروبي الى مرحلة مجابهة الهيمنة والغطرسة الامريكية ستبقى الأمور على حالها ويتم ابتزازها وضرب اقتصادها وأمنها.