2024-03-19 06:14 ص

«أيام فلسطينية»

2017-09-23
بيروت حمود
باستقرار العقرب عند السادسة مساء ينتهي العرض. يشير فعل «ينتهي» هُنا إلى أن الشاشة المعلقة بين جداري المسرح قد أصبحت بيضاء. مع ذلك، شيء ما على تلك الشاشة سيظل نافراً كجروح قديمة. فحتى بعدما تتوقفت الآلة عن إرسال الأمواج الضوئية، تظلّ الأصوات تنخر عميقاً وتتمدد إلى درجة تخالون أن تلك الشاشة ستنفجر.

العرض انتهى. لكن الوجع الذي سترونه سيظلّ يتمدّد ويكبر في زمن موازٍ لا ينتهي! ستحاولون الوقوف على أقدامكم لكن الصدمة ستقعدكم كسيحين.
وحينها ستصرخون في كلّ الاتجاهات: لماذا قد يوجد رجل طاعن في السن يتساءل باكياً «وين بدي أروح؟». ولماذا يوجد أب عالج جرحى كثراً، لكنه يبكي لأنه لم يستطع إنقاذ حياة ابنه؟ ومن أين أتت طفلة صغيرة بكل تلك الشجاعة لتعلن، من على أنقاض مخيمها، أن الجيش الإسرائيلي فاشل وضعيف، ثم تخاطب العالم بأسره، بينما هي تلبس مريول المدرسة، أنه حتى لو قبل عرفات بالسلام، فإن مخيمها لن يقبل ولن يسامح!

ستكتشفون أن «جنين جنين» ليس وثائقياً معهوداً، وأنه منذ مشاهدته، ستتبدل معاني القهر التي تعرفونها. لكن مهلاً نسيت أنني أخاطبكم! أنتم الذين تتحملون منذ أكثر من ثلاثين عاماً عدواناً تلو آخر، أنتم الذين خبرتم الجوع والألم والمجازر، وأنتم الذين تحملتهم أهوال قصف الطائرات الإسرائيلية الحربية التي دمرت مدنكم وقراكم وبيوتكم وأرزاقكم.
لكنكم مع ذلك خرجتم منتصرين أقواء أعزاء، بمقاومتكم العادلة والمحقة. وبقيتم تبتسمون رغم الفظائع التي حلّت بكم. إن ابتسامتكم تلك، والتي تثبت دوماً أنها أكبر وأعظم من كل شيء، هي وصية هذا الرجل الذي يجلس أمامكم اليوم!
الرجل الذي اعتدنا عليه بطلاً واحداً لكل الأدوار في «المتشائل». يبدو أن الله قد أوجده ليضحكنا ويبكينا في آن. ألم نعرفه سعيداً منحوساً؟ يلخص بمكنسته وسترته البالية وصندوقه حكاية الخازوق الذي نجلس عليه؟ الخازوق الذي أحسن التعبير عنه رفيق دربه ومعلمه، إميل حبيبي؟ لو أنك ما زلت حياً ولم «تخفك الوقائع الغربية» يا أبو سلام، كم كنت ستبدو سعيداً اليوم وأنت ترى محمد بكري في بيروت؟! وكم كنت ستفرح يا جوليانو خميس لو أنك لا تزال حياً؟ لولا أن البندقية التي قتلتك في نهار الاثنين المشؤوم، هي بندقية جاهلة لا تعرف أن الرصاص المفرغ من الثقافة والفكر لا يحرر أوطاننا!
اليوم إذن يحقق محمد بكري حلمه، فيصل إلينا قادماً من قريته البعنة في الجليل الأعلى، مسكوناً بشغف اكتشاف عواصم عربية محرمة في مقدمتها بيروت. وها هو، منذ أسبوع تقريباً، يمشي في شوارعها، محاولاً استيعاب الصدمة. الصدمة التي تشبه السقوط من مبنى شاهق. فإذا كان محمود درويش قد تساءل يوماً «كيف نشفى من حب تونس؟»، فإن السؤال في حالة بكري سيكون «كيف نستفيق من صدمة بيروت؟».

نعم إنها ليست حالة عادية أن نكون بينكم في بيروت. وإن كانت المسافة التي يجدر بنا قطعها لنصل إليكم أو تصلون إلينا تحتاج تنكة بنزين واحدة. غير أننا نعيش ظرفاً مكانياً وزمانياً استثنائياً، معزولين فيه عنوةً عن امتدادنا العربي. ولذلك، فإن وجود محمد بكري في بيروت هو انتصار على الاحتلال وشريعته التي ترى في لبنان بلداً عدواً.
قد تتساءلون لماذا هو بيننا اليوم؟ سؤال ستجيبكم عنه أعمال محمد بكري نفسها، سواء تلك التي شاهدتموها من قبل أو ستشاهدونها خلال عرضها في احتفالية «أيام فلسطينية». والأخيرة هي بمبادرة جمعية «أساس للثقافة والفنون»، وبالشراكة مع «دار النمر» من خلال موقعها كمؤسسة فنية تسعى لخلق فضاء ثقافي تفاعلي في قلب بيروت، وأيضاً مع واحد من أعرق الصروح الثقافية هو «مسرح المدينة». إلى جانب هؤلاء، كانت جريدة «الأخبار» التي تشارك وتسهم بهذا العمل لإيمانها بأن الثقافة هي أداة تحرر وفعل مقاوم.
«المتشائل» صار في بيروت، فلندعه يحتفي بهذا الحدث!