2024-03-19 11:53 ص

زكي درويش علم من أدباء فلسطين المحتلة

2017-09-29
حسن حميد*
زكي درويش أديب من رتبة الكبار نصاً وحضوراً وتجربة، تضيء موجوديّته الأدبية اليوم أكثر من الجائزة الرفيعة التي حازها، جائزة القدس.
أذكر ونحن في عَقْد السبعينات من القرن العشرين المنصرم، يوم كنا طلاباً في الثانوية العامة، أن الحدث الطالع لنا في المخيم كان الشهيد، وما تتبعه من مآلات وأحداث وأخبار، ولأن جنازات الشهداء كانت كثيرة، فإن الحديث عنهم، وعن المقبرة، وعن أسر الشهداء كان متصلاً، بل دائماً، وما كان ينافسه أو يفتكُ مساحاتٍ من فضائه سوى صدور عدد جديد من مجلة فلسطينية تتناقلها الأيدي من بيت إلى آخر، أما صدور كتاب فكان يشبه الاحتفالية، لأن الجميع، وبسبب مكاثرة الأحاديث حوله، كانوا يطلبونه، ولطالما عُقدت حوارات ونقاشات كثيرة داخل البيوت حول كتب كثيرة، لكن الحدث الثقافي الطالع الأهم كان وصول كتاب قصصي أو شعري أو سِيَري من داخل الوطن المحتل.. حينئذ يحسّ المرء بلهفة الجميع للاستحواذ على الكتاب ومطالعته ومعرفة ما فيه، حدث ذلك مع (سداسية الأيام الستة) لأميل حبيبي، ومن بعد مع روايته (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المُتشائل) ومع مجموعة قصص لـ خليل السواحري (مقهى الباشورة)، ومع مجموعة قصص (خبز الآخرين) لـ محمود شقير، تلك الكتب لم تُقرأ وتُحفظ عن ظهر قلب فحسب، وإنما غيّرت ألوانها، وانمحت سطورها، وأتلفت أغلفتها لكثرة تداولها بين الأيدي!

كنا، نحن أهل القراءة، على عطش شديد لمعرفة أيّ شيء عن قرانا ومدننا الفلسطينية التي اضطررنا لمغادرتها في مرتين قاتلتين، الأولى عام 1948، والثانية عام 1967، كنا على عطش لنعرف المكان الفلسطيني بكل مفرداته، وما رسّبته يد الصهاينة من أذيات التحوير والتزوير والمحو لكل ما هو أصيل، والمضايفة لكل ما يخدم نظرة الصهاينة الهادفة إلى تغيير الهوية الفلسطينية، والمكان عنصر أساسي ومكوّن شديد الأهمية للهوية الفلسطينية، كما كنا على عطش لمعرفة أشكال وأنماط وصوَر وحالات ومواقف المواجهة والتضاد ما بين الفلسطيني صاحب الأرض والثقافة والصهيوني الوافِد الجديد، والغريب في كل شيء من الخطو إلى اللسان إلى التعالق الحياتي مع المكان والتاريخ والهوية.

أقول هذا الآن، بمناسبة فوز الكاتب الفلسطيني زكي درويش المولود سنة 1945 في قرية البرودة الجليلية، بجائزة القدس الثقافية التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب سنوياً لأدباء فلسطين في الضفة وقطاع غزّة، وأقول أيضاً إن أول مرة سمعنا بها باسم زكي درويش كانت في عقد السبعينات حين راحت مجلة (فلسطين الثورة) تنشر قصصاً لأدباء فلسطينيين يعيشون في الداخل، وكان من بينهم زكي درويش، آنذاك كنا نعرف محمود درويش ورفاقه الشعراء على نحو واسع لا سيما وأن قصائده أُدرِجت في منهاج الشهادة الثانوية مع سالم جبران، وراشد حسين، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، بعدما عرفنا عنه الكثير من خلال كتابين ضافيين، أولهما للشاعر يوسف الخطيب، والثاني للروائي غسان كنفاني، وقد انصبّ حديثهما على الأدب الفلسطيني في داخل الوطن المحتل.

آنذاك اختلفنا حول ما إذا كان زكي درويش هو الأخ الشقيق لـ محمود درويش أم لا، وقد ظلّ الخلاف قائماً ما بين مؤيّد لهذا الرأي أو مخالف له، لكن ثبتت المعلومة حين عرفنا أن زكي درويش هو من قرية البروة التي هُجّر أهلها بعد أن دُمّرت، وهو يسكن في بلدة (الجديدة) على مقربة من الجنوب اللبناني. وللإشارة فقط، فإن أسرة محمود درويش خرجت إلى قرى جنوب لبنان وعاشت بضعة شهور ثم عادت إلى بلدة (الجديدة) التي أصبحت بديلاً عن القرية الأصلية (البروة).

زكي درويش لم يتقفّ درب أخيه محمود درويش كي يكتب الشعر، وإنما مضى إلى الضفة الأخرى من الإبداع، فكتب النثر، وكانت القصة القصيرة مهوى فؤاده أولاً، فقد صدرت مجموعته القصصية الأولى (الجسر والطوفان) سنة 1976 عن دار الأسوار العكاوية، وقد لاقت حضوراً بهيجاً بين القرّاء لأنها مجموعة مُنتظرة بعدما نشر زكي درويش بعض قصصها في جريدة (الاتحاد) التي كانت تصدر في مدينة حيفا، ويحرّر صفحاتها إميل توما، وإميل حبيبي، وتوفيق فياض، وسميح القاسم، ثم صدرت مجموعته القصصية الثانية (الرجل الذي قتل العالم) عام 1978 عن دار الأسوار نفسها، وقد لاقت هذه المجموعة حضوراً مدوّياً داخل الوطن الفلسطيني حتى قيل إن ما من بيت فلسطيني خلا من هذه المجموعة. والحق أن قبول القرّاء، ولا سيما شريحة المُثقّفين على القراءة، وترقّب الأعمال الأدبية يعود إلى أسباب كثيرة جداً، في طالعها أن صدور المؤلّفات الأدبية وباللغة العربية كان شكلاً من أشكال المواجهة مع الصهاينة ومشاريعهم الهادفة إلى تذويب الشخصية الفلسطينية وطيّ رغائبها، وشلّ مفاعيل قوّتها، ثم إن القرّاء أرادوا أن يروا صورة الأحداث الجارية أمامهم، وكيفية رسْمها، ومن الأسماء المعروفة دخل أبهاء النص الأدبي، ثم إن القرّاء أرادوا استعادة مشهديات الصلف الصهيوني من جهة ومقاومة أهالي القرى والمدن الفلسطينية من جهة ثانية داخل النصّ الأدبي ولا سيما في يوم الأرض عام 1976.  

وأياً كانت الحال، فإن الكتاب القصصي الأول الذي وصل إلى أيدينا في المخيم، وفيه قصّة للكاتب زكي درويش، كان مجموعة من القصص لعدد من الكتّاب الفلسطينيين الذين ما كنا نسمع بهم من قبل أمثال: إبراهيم العلم، ومحمّد كمال جبر، وفضل الريماوي، وعلي لبد، وعبد الله تايه، وغريب عسقلاني، وسامي الكيلاني، وصبحي حمدان، ومفيد دويكات، وحمدي الكحلوت، وزكي العيلة.. والحق أن العطش المعرفي للتواصل مع ثقافة الوطن المحتل إبداعاً، ودراسات، وترجمة.. ظلّ موصولاً حتى هذه الساعة لأن الأجيال الأدبية المُتتالية حملت شعلة الأدب، وتمسّكت باللغة العربية وسيلة للتعبير والتواصل والمقاومة أيضاً.

وزكي درويش الأديب الذي ظفر بجائزة القدس مؤخّراً، عاشق للقصة القصيرة لأنه شَعَرَ بأنها هي الأكثر قُدرة على التعبير في مناخ اجتماعي سريع التبدّل والمُغايرة، ولهذا فإن له اليوم أكثر من سبع مجموعات قصصية، كما له أكثر من مسرحية، وأكثر من رواية، وهو خريّج جامعي يحمل شهادة عُليا في اللغة العربية، وقد زاول التدريس في الثانويات والمعاهد والجامعات، وقد كان أدبياً ناشطاً وحاضراً في المجلات الثقافية التي عرفتها المدن الفلسطينية مثل: الجديد، والغد، وصحيفة الاتحاد، بالإضافة إلى حضوره في بعض الملاحق الثقافية التي عرفتها مدن القدس، والناصرة، ورام الله. وقد حظيت روايته (أحمد محمود والآخرون) بحضور مهم لأنها تحدّثت عن أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1978)، والنشور الوطني لفتيان فلسطين وأطفالها الذين شكّلوا مرآة جديدة للنضال الفلسطيني راح الآباء والأمّهات يواقفونها بكل الزهو والافتخار لأن هذه الانتفاضة مثّلت دكّاً لكل مقولات الصهاينة التي أرادت إماتة الفعل النضالي الفلسطيني، والتي روّجت إلى أن كبار الفلسطينيين المُطالبين بفلسطين ماتوا، وأن الأجيال الطالعة نسيت فلسطين. رواية زكي درويش (أحمد محمود والآخرون) وجه جديد. مُشرق للنضال الفلسطيني واندفاعة قوية لثقافة المقاومة، ومواجهة باسِلة لثقافة المحو وتفتيت الذاكرة الفلسطينية التي واجهها الفلسطينيون.

اليوم، وقد بلغ زكي درويش السبعين من عمره، يتطلّع الآخرون إليه بوصفه علماً من أعلام الأدب والثقافة الفلسطينية التي حافظت على الهوية الفلسطينية لغةً وأدباً وإبداعاً وحضوراً من البيت إلى المدرسة إلى المجتمع على الرغم من كل الأساليب الترهيبية التي تبعها الصهاينة من أجل أسْرَلَة الجميع، والأمكنة، والكتب، والثقافة، والفنون، ولكن الإخفاق كان مآل هذه الأساليب الشيطانية ، لأن المجتمع الفلسطيني مُحصّن بهويته ولغته وتاريخه وأحلام أهله، وعصيّ على الانحناء، وهذا ما تؤكّده كوكبة الأدباء الفلسطينيين المعروفين داخل الوطن الفلسطيني أمثال: محمّد علي طه، وغريب عسقلاني، ومحمّد نفّاع، ورياض بيدس، وأنوار الأنوار، وفاروق مواسي، وسامي مهنا، وسليمان دغش، وحسين مهنا، وسليمان درز، ومعين شلبية، وشفيق حبيب، وفاتن مصاروة، وإيمان مصاروة، وجميل السلحوت، وريتا عودة، وعبد الناصر صالح وعبد الله تايه..

زكي درويش أديب من رتبة الكبار نصاً وحضوراً وتجربة، تضيء موجوديّته الأدبية اليوم أكثر من الجائزة الرفيعة التي حازها، جائزة القدس، ولعلّها تكون الحافز لدور النشر العربية للمبادرة في نشر أعماله المهمة في طبعات جديدة تعريفاً بالأدب المقاوِم الفلسطيني البهّار.

روائي فلسطيني*