2024-03-19 01:18 م

الصراع على الطعام أيضًا.. هكذا تسرق إسرائيل التراث الفلسطيني

2017-10-19
منذ أيام نُشر على «الغد نيوز» تقرير بعنوان «بينها الطعمية والبانيه والمعكرونة بالبشاميل.. 10 أكلات يهودية يأكلها العرب يوميًّا»، وهي المادة التي سرعان ما حذفها الموقع بعد ساعات، بعد التثبت من مخالفتها للسياسة التحريرية خاصته، حيث جاء نص الإعلان عن حذف المادة كالتالي: «حذفت هذه المادة لمخالفتها قاعدة الموضوعية ووضع القصة في سياقها الشامل، التي نصت عليها السياسة التحريرية لـ«الغد نيوز»، فقد تبنت منظورًا واحدًا لرؤية القضية المطروحة، دون المراعاة الكافية للمنظور الثاني»، وفي هذا التقرير سنحاول أن نعرض نفس الموضوع بوضعه في سياقه الشامل.

تخيّل أن تجد نفسك – فجأة – على أرضٍ لم تسكنها يومًا، لا أنت ولا والدك ولا جدك، جئت الآن وهنا بدأت البحث عن هويّة جديدة، أنت قادم من روسيا، ومعك آخرون من أنحاء المعمورة: أمريكا وأوروبا وإفريقيا وبولندا، وأثناء بحثكم جميعًا عن هويّة تجمعكم تصطدمون بكتلةٍ كبيرة وصُلبة تُسمى «الشعب الفلسطيني»، ماذا ستفعل حينها؟

زُرع فلسطينيًا وأُكِلَ إسرائيليًا
تصطدمُ كتلتك المُشتتة القادمة من كل ناحية في العالم بشعب كالشعب الفلسطيني، شعبٌ في كل بلدة من بلداته زيٌّ شعبيٌّ يختلف عن زي البلدة الأخرى، وكلّ بيت فيه يعرف «المسخّن» ويحفظُ طعمه ومكوناته عن ظهر قلب؛ فهو يُعايشها بفصولها ومواسمها يومًا بيوم، ثم يحصدها ويُعدّها بيده، وماذا عن «المكْلوبة» و«الحمص والفلافل» و«قلاية البَنْدُورَة بالبيض»، البيض الذي تتناوله سريعًا من قمّ الدجاج لتطبخه.

لم تكن الرواية الإسرائيلية مُسالمة بالطبع، فادّعت – بعكس ما عاش الفلسطينيون – أنها مأكولات إسرائيلية. أخبرنا المؤرخ الفلسطيني بشير نافع بأن هذه الحملة الإسرائيلية لحيازة هذه الأكلات بدأت منذ 30 عامًا تقريبًا، ولم تتوقف حتى اليوم.

من الغريب أن «الصهاينة» ينسبون أطباق الفلافل والحمص لإسرائيل، بل حتى العرضة الشعبية الفلسطينية «الدبكة»، وعند بروز أي اعتراض من الجانب العربي/ الفلسطيني يكون الردُّ المُعتاد، كما يقول المفكر العربي – أستاذ سياسة العرب الحديثة وتاريخ الأفكار في جامعة كولومبيا – جوزيف مسعد، أنّ هذه الأكلات والعادات انتقلت مع اليهود العرب الذين هاجروا إلى فلسطين من أنحاء العالم العربي، ولكن مسعد، في كتابه «ديمومة المسألة الفلسطينية» يردّ على الرواية الصهيونية، فيقول إن اليهود العرب الذين كانوا يسكنون سوريا ولبنان وفلسطين (أي اليهود الذين يأكلون الحمص والفلافل مع بقيّة عرب الشام) هاجر معظمهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى أمريكا اللاتينية، ولم يهاجروا إلى إسرائيل، أما اليهود العرب الذين هاجروا إلى إسرائيل، فهم يهود المملكة المغربية والعراق واليمن، حيث لا توجد هذه الأكلات، ولا حتى الدبكة الفلسطينية.

وهنا يُطرح سؤال وجيه: هل ثقافة اليهود العرب – وهي ثقافة عربيّة – يصحُّ أن يُأكد عنها «ثقافة إسرائيلية»؟ وكيف يصحّ ذلك، والثقافة العربية سابقةٌ على قيام دولة إسرائيل أصلًا؟

الدعاية الإسرائيلية
لإسرائيل طُرقها في نشر روايتها عن طعامها وأصله، ومن أكثر طرقها رواجًا: الطبق الوطني في إسرائيل. أعلنت إسرائيل أن «الحمص» طبقها الوطني، أي أنه طبق إسرائيلي أساسي في الثقافة الإسرائيلية ومطبخها، وأثارت بذلك جدلًا واسعًا حول أصل الحمص. من الواضح أن المعركة ليست معركة على طبقٍ من طعام، ولكنها معركة أوسع وأعمق بكثير، على الأقل هذا ما يُعبّر عنه السلوك الإسرائيلي في ترويجه للأطباق الفلسطينية والعربية على أنها أطباق إسرائيلية، تأتي من بلد ذي «ثقافة رائعة» تأكل الحمص، وتمارس في نفس الوقت فصلًا عنصريًا واستهدافًا للأطفال.
Embed from Getty Images

مالك مطعم فلسطيني يحمل صحن حمص.
في وقت لاحق أطلقت جهات إسرائيلية «يوم الحمص العالمي»، الذي يوافق تاريخ 13 مايو (أيّار) من كل عام، وفي «خريطة الحمص» تظهر إسرائيل كراعية عالمية للحمص بـ69 نقطة لبيع وإنتاج الحمص، و3 نقاط فحسب في العالم العربي، عالم الحمص والفلافل! ويتكرر نفس المشهد في «اليوم العالمي للفلافل» وخريطته «التفاعلية» التي تطغى عليها إسرائيل.

ظهرَ في رمضان الماضي 26 مايو (أيّار) 2017، أفيخاي أدرعي، المتحدث الرسمي باسم «جيش الدفاع الإسرائيلي»، أو ما يُسميه الفلسطينيون بـ«جيش الاحتلال الإسرائيلي»؛ ليُهنّئ أدرعي المسلمين برمضان، جامعًا أطباقَ المشرق العربي على طاولة واحدة، ومُعتبرًا الفلافل طبق إسرائيل، ثم يقفز إلى نتيجة مُفادها: كما اجتمعت الأطباق نستطيع أن نجتمع نحن، ويختم بدعاء «اللهم اهدنا سبل السلام»، فلمَ لا يستجيب الفلسطينيون لخطابٍ «لطيف» ومُسالم كهذا الخطاب؟ من المُزعج جدًا أن يُخبِرَ الفلسطينيين ضابطٌ في «جيش الاحتلال» أن الفلافل «فلافلُ إسرائيل»، هذه الأكلة التي كان أجداد الفلسطينيين يعدونها مع الحمص منذ زمن بعيد، قبل أن تُوجد إسرائيل.

وهنا مفصلُ اللعبة: يتحوّل صحنُ الحمص من طبق لذيذ إلى صراع وجودي وهويّاتي بين جماعتين؛ الفلسطينيّون والإسرائيليون، وينشأ نزاعٌ عميق على حق الفلسطينيين وارتباطهم بالطبيعة والأرض، وما يخرج منها، وفِعل الفلاحة الذي يربط الفلسطينيين بأرضهم وببعضهم البعض، وفعل الطبخ، كنتيجة لفلاحة الأرض، ولأول مرة يُقابل العرب من يقول «الحمص والفلافل لنا» مُتحسسًا زناده استعدادًا لقتل من يُخالفه في ذلك.
شكشوكة بطعم الدم!
«قلاية البندورة بالبيض» أو «الشكشوكة»، مساحةُ صراعٍ آخر بين الفلسطينيين والإسرائيليين. مُجددًا اختارت إسرائيل الشكشوكة كطبق وطني لها، وروّجت له حول العالم على أنه طبق إسرائيلي أصيل، وأحيانًا، مُعدّلٌ مع إضافاتٍ حادة.

حساب «إسرائيل بالعربية» يعلن مقطعًا للشكشوكة كأكثر «الأطباق انتشارًا بين أهل إسرائيل».
تذكر بعض المصادر أن الشكشوكة أصلها عربي من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وتُضيف مصادر أخرى بأن يهود ليبيا والمغرب تحديدًا هم من جلبوها معهم إلى إسرائيل. وفي موقف غريب يقول الصحافي الإسرائيلي ليل ليبوفيتز إنه لا يحق للمغرب أن تنسب الشكشوكة لنفسها، ويقرّ في نفس الوقت بأن الشكشوكة أتت من المملكة المغربية، مُتناسيًا أن اليهود العرب كانوا عربًا قبل إسرائيل.

يحتفل الإسرائيليّون باستقلالهم الذي يعتبره العرب نكبة 48، بمناسبة تلك الذكرى قدّم السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة طبقًا من الشكشوكة للأمين العام حينها، بان كي مون، الذي لم يُعرب عن قلقه من مصدر الطبق المستولَى عليه، ولكن عبّر عن إعجابه الشديد بطعمه باللغة العبرية، بعد أن شرح له السفير الإسرائيلي طبيعة الشكشوكة، «الشكشوكة مثل إسرائيل» وهي طبقٌ يُمثّل «بوتقة منصهرة مثل ثقافتنا».
أعدّ ذلك الطبق ثلاثة إسرائيليين يتنقلون في نيويورك بعربة طعام باسم «عربة شوكة»، تختص ببيع الشكشوكة وأكلات أخرى مُشابهة أو مُعدّلة، على شكل أطباق وسندويشات مُعدّة للتناول السريع، وبالطبع، لا بُد من «أسرلة» الشكشوكة:

سندويشة شكشوكة يُعدّها إسرائيليون في نيويورك
لكن أيّ ملامح يُمكن لمطبخ كالمطبخ الإسرائيلي أن يحويها، إلا أن تكون ملامح عربية؟  رونيت فيريد، كاتبة طعام إسرائيلية في صحيفة «هآاراتس»، كتبت مقالًا بعنوان «هل يمكن أن تُسمى الحمص والفلافل بأطباق إسرائيلية؟» هاجمت في مقالها كتابًا إسرائيليًا نُشر في 2015 يتحدث عن وصفات المطبخ الإسرائيلي المُعاصر (وكأن هنالك مطبخًا إسرائيليًا قديمًا!)، تسخر في مقالها من فكرة «البوتقة المنصهرة» وتقول إن الكتاب يتحدث عن الوصفات والتوابل العربية وكأنها شيء إسرائيلي، و«بالكاد» يذكر الكتاب أن «المطبخ الإسرائيلي» مُتأثرٌ بالطعام العربي، وتُنهي فيريد مقالتها بقولها: الكتاب يعرضُ مطبخًا ليس إسرائيليًا ولا جديدًا.

هنالك وسيلة أخرى يروّج من خلالها الإسرائيليون للطعام العربي على أنّه إسرائيلي، «إسرائيلي» لا «يهودي عربي»، من خلال مطاعم إسرائيلية تبيع هذه الأطعمة حول العالم، «فلافل إسرائيلي» و«حمص إسرائيلي»، وكذلك «شكشوكة إسرائيلية».

على سبيل المثال؛ في وارسو، عاصمة بولندا، تُوجد سلسلة مطاعم باسم «طعام تل أبيب المدني tel aviv urban food». وفي لندن وحدها ما يزيد عن 15 مطعمًا يُقدم طعامًا عربيًا وفلسطينيًا على أنه طعامٌ إسرائيلي، أمّا باريس فتحوي مطاعم عديدة للطعام الإسرائيلي، يُقدّم بعضها «الفتوش» وحتى «الزعتر»، وتُقدم هذه الوجبات في المطعم الذي يُعلن أنه مُخصصٌ للـ«مأكولات الإسرائيلية».

هذه قصة تروي استيلاء الدولة الإسرائيلية على أرض طفل فلسطيني، ثم لباسه، ثم طعامه؛ في محاولة لسحب الأرض والهويّة من تحت هذا الطفل الذي لم يُعلّمه جده أن كل ما يراه ليس إسرائيليًا، وأن فلسطين «كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين»؛ لأن جده رحلَ مبكرًا قتلًا أو تهجيرًا.

بالأحمر والأسود والأخضر! أطباقنا لنا
السطو على «التراث الفلسطيني» بدأ قديمًا. الدكتور محمد بكر البوجي، أستاذ الأدب والفكر في جامعة الأزهر في غزة، يتهم إسرائيل بسرقة التراث الفلسطيني وتسجيله رسميًا باسم إسرائيل، ويتحدث في لقاء معه عن شراء تاجر في غزة للأثواب التقليدية للسيدات (اشترى أحدها من أمه، قديمًا) ويبيعها لتاجر آخر في تل أبيب. في السنوات الماضية بدأت صناعة «الأزياء الإسرائيلية» بالاستيلاء على «الكوفيّة» الفلسطينية، التي كانت رمزًا للمُقاومة والمُناضلين.
كرد فعلٍ فلسطيني على السطو الإسرائيلي على الطعام الفلسطيني، أنشأت سوسن، سيّدة فلسطينية درست طب الأسنان، مدونة لاستعراض بعض وصفات الأكلات الفلسطينية سمّتها بالـ«الشيف المُتنكر»، تقول فيها إنها تكتب بالإنجليزية في محاولة للوصول إلى جمهور أوسع، ولتُعطي الناس «نظرة من الداخل» على الشرق الأوسط وطعامه، مُنددةً بما تفعله إسرائيل من سطو على التراث الفلسطيني: «لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بسرقة فلسطين وأرضها، بل عمد إلى سرقة الموروث الشعبي الفلسطيني بأنواعه كافّة… فسرق عددًا كبيرًا من من الأطباق المشهورة في فلسطين».

أما جودي القلا، فلسطينية في بريطانيا، فتذهب إلى أبعد من ذلك، مُطلقة تطبيقًا للهواتف النقالة، وكتابًا كاملًا، يختصُّ بالأكلات الفلسطينية، «فلسطين على طبق»، تقول إنها تعرض فيه أكلات تعلمتها من أمها وجدتها التي أُجبرت على الخروج من حيفا في فلسطين أثناء نكبة 48.
طبق فتّة حمص من إعداد جودي القلا

أما اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة، «BDS»، فتُتابع عملها في ملاحقة إسرائيل في المحافل الدولية المختلفة، وآخرها مهرجان الطهي في تل أبيب – ترعاه الحكومة الإسرائيلية – إذ ندّد من خلال اللجنة طهاةٌ فلسطينيون وعالميون بالمهرجان، ودعوا الطهاة الآخرين المُشاركين فيه للانسحاب منه؛ منعًا من «تلميع جرائم الاحتلال الإسرائيلي». وعلى الجهة الأخرى، شارك الشيف محمد الجابي بطبق «المجدرة» في مسابقة مهرجان الطبخ الدولي، أُقيمت المسابقة في أوكرانيا وحصد فيها المركز الأول، مؤكدًا على «ضرورة تثبيت حقنا في تراثنا وتاريخنا، والذي تعتبر أطباق الطعام الوطني جزء هامًا منه».

إسرائيل مُتنكِّرة
لمَ تتنكر إسرائيل بتراث غيرها؟ يحقُّ لنا أن نتساءل عن طبيعة مجتمع يأكل طعامَ عدوه، ويستعرض لباسه، ويسكنُ أرضه، وما فائدة ثقافة رائعة وملونة، إذا قامت على تحيّز عرقي عكس الفلسطينيين، وتفرض عليهم أفعالًا عنصرية يُنكرها القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، كالحصار وجدار الفصل العنصري؟ 
مُجددًا، معركة الحمص والفلافل معركةٌ سياسية واقتصادية، ولكنها أيضًا وجوديةٌ بالدرجة الأولى، فهي امتدادٌ لمعركة يموتُ فيها الناس من أجل الحفاظ على ارتباطهم بالأرض: ارتباط بالطبيعة المُحيطة ومكوّناتها وتاريخها وما يخرج منها.

هل كان صحن الحمص نزاعًا بين شعبين على طبق طعام؟ وهل انزعج الفلسطينيون حقًا من انتشار طعامهم حول العالم؟ أم انزعجوا من الرواية الإسرائيلية، التي لم تفتأ تروّج في العالم لفكرة السلام وهي تخوض حروبًا دمويّة مع الفلسطينيين؟!