2024-04-16 04:38 م

التطبيع مع إسرائيل، تطبيع من وماذا؟

2017-12-22
وسيم ضاهر

يبدو أن استحقاق الدعوة الى التطبيع أصبح على أبواب المجتمع اللبناني. التطبيع، ولو في العلاقات، ككليشيه أولى، يعني، تقنياً وتطبيقياً، تحويل الخارج عن الطبيعة، أي وجود علاقات بين منظومتين معينتين، إلى طبيعي. الكلام طبعاً عن المنظومة الاجتماعية الممكن، نظرياً، اختراقها في بعض زواياها عبر شخصيات مستثقفة قد تكون بلا رؤية وبلا ذاكرة، أو حتى شخصيات مثقفة تعيش نكران مجتمع فاسد لذاتها، مجتمع ضربته الرأسمالية في موازينه، كما يصفه شومبتر، فيجد هؤلاء المثقفون التطبيع موجة يركبونها لترفعهم، ويتحولون بذلك إلى مسترزقين.

من المفيد، في هذه المرحلة، وضع أطر لنقاش قد يبدأه قريباً مستثقفون وتديره شركات البروباغاندا الصهيونية ويدافع عنه بعض الإعلاميين بحجة حرية التعبير، كما قد يكون حصل مع زياد الدويري.
فلتكن البداية مع تركيبة المجتمع الإسرائيلي ومحركاته وهويته الثقافية. يصف سامي سموحة، وهو من علماء الاجتماع الإسرائيليين المشهورين، في أحد أوراقه العلمية في جامعة حيفا في 2009، المجتمع الإسرائيلي بأنه قيد البناء والتبلور ليصبح أساساً فعالاً لتحقيق مشاريع نخبوية كبرى؛ أهمها إعادة واستيعاب 7.5 ملايين يهودي لا يزالون في الشتات، بناء تراث حضاري عبري، وتوطين اليهود في أراضٍ (عربية) لم تستعمر بعد. ويكمل في توصيفه للمجتمع الإسرائيلي بأنه مجتمع مقاتل، للمؤسسة العسكرية قرار مركزي فيه وتشكل أبرز محركاته، كما يعاني من انقسامات حادة بين مكوناته على أساس ديني، وعرقي، وسياسي، ورؤيوي.
وعمل شموئيل إيزنشتاد، وهو من علماء الاجتماع الأبرز في العالم، والمهندس الأول للمجتمع الإسرائيلي، وأحد أصحاب نظرية المركز والأطراف، على بناء نواة صهيونية نخبوية صلبة للمجتمع الإسرائيلي، حيث تشكل النواة مركزاً حصرياً للتخطيط والسيطرة، والقوة العسكرية، وتوزيع الإنتاج، وتضم نخباً جيء بها من روسيا وشرق أوروبا عبر موجتي الهجرة الأولى والثانية، أي قبل عام 1918. ثم تبعها بناء الأطراف باليهود المستقدمين عبر موجات الهجرة الثالثة، فالرابعة، فالخامسة حتى عام 1939. وكان هؤلاء المستقدمون يدجنون أو يطبعون صهيونياً عبر عزلهم في مستعمرات يديرها صهاينة نخبويون يكلفون من المركز. ومتى ما بلغ المستقدمون الحد المطلوب من «التصهين»، ضموا إلى منظومات المجتمع الإسرائيلي وجرى الاستعداد لتوسعة جديدة في الأطراف. وأحد المخاطر الكبرى لهذا التطبيق يكمن في نضج المركز لاستيعاب وإدارة تركيبات اجتماعية ودينية منوعة عند الأطراف، على قاعدة تزويد المركز لهذه الأطراف بما يريده ويسمح به، وأخذ أو انتزاع منها ما يريده أو يرغب به تحت وطأة التهديد العسكري. وقد يسمح للأطراف بالاحتفاظ باستقلالية معينة في بعض القرارات المحلية لإدارة مجتمعاتها «الهشة».
أما الفكر الصهيوني فيتحتم على من يحمله، بتعريف ليون بينسكر، واضع تعاليم الصهيونية الحديثة، أن يؤمن بأن اليهود أمة في مأساة وتنتهي مأساتها عند حصولها على أرض لها، أي في إطار دولة يهودية ببعدها العنصري لا الديني. واتفق على أن تكون بداية هذه الأرض فلسطين، من دون الاعتراف بأي حدود لها، واتفق على أن تتضمن الصهيونية فكرة تحضير هذه الأرض لاستيعاب يهود الشتات جميعاً، متى ما قرروا العودة إليها. عمل صهاينة الهجرة الأولى في الزراعة، ثم انتقلوا الى تنظيم الكيبوتزات، حسب توصية أرثر روبن، رئيس مكتب الوكالة الصهيونية في يافا في 1909، الذي عمل على تنظيم الأرض للهجرة الثانية. فعمل على تأسيس كيبوتز داغانيا في 1909، ثم كيبوتز كينيريث وغيرها، والتي جميعها استعملت لتخزين السلاح وللتدريب الذي تترجم في أوائل عشرينيات القرن الماضي إلى حركات إرهابية مسلحة كالهاغانا، التي أسسها زئيف جابوتنسكي، لقتل العمال العرب المعترضين على عدم إشراكهم في الأعمال الزراعية التي قامت لمصلحة المستثمرين الجدد، إذ حصر العمل بالعمال الصهاينة بالرغم من غلاء رواتبهم.
إذاً، نحن أمام علاقات، قد يقترحها البعض، بين مجتمعنا الطبيعي الثقافة واللغة والمكان، القديم، العريق، المسالم، المتصالح مع إنسانيته، المعترف بإنسانية غيره، المساهم فكرياً وحضارياً في دورة الحضارات عبر التاريخ، وبين هيكلية مجتمع وضعي وظيفي عسكري دموي لم تكتمل معالمه بعد، قائم على سرقة علوم الآخر وتراثه وحضارته وأرضه وتاريخه ونسبها الى نفسه. «المجتمع» الإسرائيلي لا تاريخ له، ولاعادات جامعة ولا تقاليد صقلتها الحضارة الإنسانية للتماشى معها، ولا لغة تختزن إرثهم. اللغة العبرية، بالمناسبة، بقيت لغة للمناسبات الدينية حتى الأمس القريب، واستعمل اليهود لغات أخرى، كلغة الييديش في بعض أوروبا، وقد وصف غسان كنفاني هذا الواقع في كتاب «في الأدب الصهيوني».
«المجتمع» الإسرائيلي وظيفي مبني على أيديولوجيا ذات مخزون فكري توسعي، حدود مركزه ما يستوعب يهود الشتات، أما حدود أطرافه فلا ضابط لها، تصل إلى حيث تستطيع أن تصل، لتضم مجتمعات بشرية مروضة خائفة من بطش المركز. مركز يخطط ويفكر وينتج لأطراف تنفذ وتستهلك وتعمل وتموت بهدوء. مركز مجهز ومدرب على سرقه «أرواح» المجتمعات الطبيعية وهوياتها، يختار منها ما يناسبه من إرثها وينسبها لنفسه، ويبث فيها سموم الصراعات لترويضها وتحويلها الى مزارع عبيد في خدمة الصهيونية. وهذا بعض من فيض.
سيدخل هؤلاء مجتمعاتنا فقط إن فتحنا لهم الباب، أو حتى نافذة. لا يمكن أن نسمح لراكبي الأمواج أو عديمي الرؤى بإدخال جرثومة وظيفتها القضاء على طريقة عيشنا وسرقة هويتنا الحضارية والثقافية وتعريض مستقبل أبنائنا للهلاك. هي معركة وجود حتماً، المعركة ضد التطبيع. فليجر التعامل معها على هذا الأساس.
*باحث لبناني