2024-04-17 01:59 ص

الأغلبية الشعبية.. والمبادرة نحو مواجهة الحاضنة الفكريّة للتطرف

2018-01-05
بقلم: السيد شبل
الصراع مع الإرهاب.. هو صراع بين (الموت) و(الحياة).. جوهره هنا: أشخاص إماتيّون لديهم رغبة في حشر الناس كلّها داخل قبر كبير ونفي كل مظاهر الحياة (تبدأ من العداء مع مدائح الصوفيين، مثلًا، وأغاني أم كلثوم ومقطوعات عمر خيرت، وتنتهي برصاصة في الصدر، مرورًا بالرغبة في تعميم السواد..)، وأغلبية تقاوم ذلك. تجربة الست سنوات الماضية، في مواجهة التطرف والإرهاب الذي مثّل رأس حربة مشروع استهداف خارجي، أثبتت أن هناك اختراق حاصل في الجسد العربي، لكن الهيكل العظمي ومعظم اللحم لا يزال بخير، وكما أن الإرهابيين منهم ناطقين بالعربيّة، كما منهم أتراك وأوروبيين وآسيويين، فإن الجيوش والحشود الشعبيّة التي قاومتهم وانتصرت عليهم عربيّة أيضًا، بل هي ليست عربية باللسان والجغرافيا والتاريخ.. وإلخ، فقط، بل عربية بالانتماء ذاته، وبحكم أن لها مصلحة في هذا الوطن، وهي تؤمن بذلك. الأحداث المتتالية والجسارة الشعبية في مواجهة الإرهاب، وتفريق الناس جيدًا بين النظام والوطن، تؤكد هذا الشعب مستعد للتعاطي، تمامًا، مع أي مشروع حقيقي لتعزيز المواطنة وتفكيك البنيّة الفكرية للإرهاب بالكليّة، آخر الأمثلة: هي المواجهة الشعبية التي حصلت في مدينة حلوان جنوب القاهرة بمصر مع التشكيل العصابي الإرهابي الذي نفّذ اعتداءًا على كنيسة هناك، فثمّة مواطن مدني أستدعى جنديّته، في طرفة عين، وبادر إلى حمل رشاش أمين الشرطة الذي استشهد على مدخل الكنيسة أثناء قتاله مع الإرهابي، وأطلق منه الرصاص نحو المجرم، وثمّة شهمٌ آخر يُدعى «صلاح الموجي» انتهز فرصة إطلاق الشرطة رصاصة نحو الإرهابي أقعدته على الأرض، فانقض عليه من الخلف، مُسيّطرًا عليه تمامًا وشالًا حركته.. وإذ بالحشود من كل مكان تجري مسرعة نحو الإرهابي، لمحاولة حصاره، وبرغبة انتقاميّة، لكن الأمن الذي سابق الناس للوصول إلى الإرهابي المُقعَد سيطر على الوضع.. وحصل هذا وسط صياح وتكبير و«زغاريد» من متابعي المشهد من الشرفات.. صحيح أن مخاطر هنا كانت من الممكن أن تلحق بهؤلاء المدنيين، وأن الدور الأساسي يجب أن يكون للقوات المدرّبة والمُجهّزة للتعامل مع ذلك، وأنها يجب رفع كفاءتها، لكن تلك قضية أخرى تستحق المناقشة في سياق آخر.. المُراد هنا، هو التركيز على هذا البُعد الشعبي في المعركة والبسالة، وعلى هذا الوعي الناضج، الذي تمسّك بإخلاصه لجماعته الوطنية، ورغبته في الحياة، وفي التخلّص من هؤلاء الظلاميين، وفي منع هذه الأداة الغربية من تخريب بلاده، أو تقسيمها على أسس طائفية وإثنيّة (هذه الجموع لا تطلب أكثر من سلطة تنتمي لها، وتمتنع عن التفريط بأرضها، أو رهن اقتصادها لمخططات البنك والصندوق الدوليين، وأن تتمتع بمشاركة شعبية حقيقية في إدارة بلدها عبر تنظيمات ونقابات حقيقية، وليس عبر «أحزاب رجال الأعمال»، أو بتداول كاذب للسلطة بين نخب طبقة بعينها!). مُنفّذ العمل الإرهابي لديه إيمان ما، والشرطي والبطل الشعبي لديه إيمان أيضًا، لكن الإيمان الأخير رحبُ وعام وكلّي ومتسامح و(صوفي شعبي) وبسيط، ومؤمن كذلك بمصلحة جماعته الوطنية في دنياها، أما الإرهابي فقد مرّ إيمانه بتركيبات وعقائد وتصوّرات مُحدّدة وحِصار وإرهاب فكري وإغراق في الأدلجة، وخطاب كراهية نمّا فيه الأنانية واحتقار الآخر، وحُقن حتى امتلأ قلبه بالنرجسيّة والإحساس بالتميّز على الآخرين، وبدأ يشعر أنه «إله» مهمته إرسال هؤلاء الكفار للآخرة، وإظلام تلك الدنيا التي لا تسير على هواه (يبدأ الأمر عادة بالتمايز في الملبس والمظهر، والرثاثة والنفور من المجتمع ومخاصمة الحياة.. بمعنى أنه يبدأ من بوابة التعصّب الديني والتزمّت، وغالبًا ما يكون هذا رد فعل على مرحلة انفلات وانحلال ولذائذيّة وفوضويّة وأنانية أيضًا، وهذا التعصّب عام في كل الأديان والمذاهب، وليس حِكرًا على أحد، لكنه يتجسّد اليوم أمامنا في الوهابيّة، تحديدًا. وهذا هو التحدي الأهم، فتلك الأيدولوجية الخانقة السلفيّة، التي ما أن تختلط بالخطاب الإخواني القُطبي، حتى تنتج هذا السلوك "الجهادي"، وما أن تتسيّد حتى توفّر الجنود لأي معركة ترغب «السي آي إيه» في خوضها بالعالم، تحقيقًا لمصالح اقتصادية ومادية في نهب الثروات والسيطرة على الأسواق، ومنع المنافسين). في الحقيقة الشعب العربي، مستعد تمامًا، لخوض غِمار معركة حقيقة، على المستوى الفكري لحصار هذا الهوس الديني وسلطة رجاله، ولديه وعي مادي عقلاني وبسالة وحب للحياة وطموح للأفضل، وأسقط، في مصر، مثلًا، سلطة الإخوان وكسح سلفييهم، ولم ينتظر لفتوى مقابل فتوى حتى يملأ الشوارع بـ 2012، و2013، وأثبتت الحوادث أن ملايين التبشير الوهابيّة.. وغيرها، عجزت عن اختراق أغلبيّته، والوضع في مصر قريب من الوضع في ليبيا وتونس وسورية والعراق، مع تثبيت أن هناك مواطن معطوبة في الجسد.. لكن العلاج المطلوب والاستثمار في وعي الأغلبية، يؤكدان أن أي تراجع من السلطات العربية عن تنفيذ هذا المشروع، هو نكوص منها، وتذبذب، وقفز في الفراغ. من جهة أخرى ثمة نخبة غرباوية مثالية منفصلة عن الواقع، لا يمكن إسقاط الحديث عنها، تطرح مشاريع التحديث والمواطنة والعلمنة، ضمن طرح يميني يعزز التبعية الاقتصادية والسياسية، ويفاقم الاستغلال والتمييز الطبقي ويبشر بالانفلات وعدم التماسك، وهذه النخبة تحتقر الشعب عامة، ولا تريد أن تبني على ما هو إيجابي عنده أو في مكوّنه الثقافي، فتُرهب الناس من هذا الطرح.. وهي في الحقيقة لا تريد سوى احتقار مجتمعها، وإيجاد مبررات لعمالتها أو مسكّنات لضميرها عندما ينهب الأجنبي بلادها وشعبها. وعلاج الطائفيّة، على العموم، ليس بالفتاوى الليّنة بمواجهة الفتاوى المتعصّبة، فقط.. العلاج يحتاج لمشروع اجتماعي وطني تصنيعي تحديثي فكري عام يشطب كل تلك البيئات الريفيّة/العشوائية الانغلاقيّة ويضبطها وينظّمها ويسدّ الفراغات (أين النادي الرياضي؟، وبيت الثقافة والمسرح؟، ومشاريع التنوير؟) ولا يُمكن إنجاز ذلك أبدا في ظل نيوليبرالية اقتصادية واشتراطات بنك دولي تطالب الدولة بمزيد من الانسحاب وخصخصة الأملاك!. الحاجة هي لمشروع يفتت العقلية الدينيّة ذاتها، وسلطات رجال الدين (كلّهم) من الأساس.. وليس هذا ممكنا إلا مع إيقاف المال التبشيري/السياسي الآتي من الخارج، ومنع رجال الأعمال عن السلفيين بشتى أشكالهم، والإمساك بهذا الملف (لأنه ملف وطني وسياسي واجتماعي.. وليس ملف قناعات شخصيّة). على الأقل، يتم إنجاز مهمة حصار هذا الخبل الحاصل بالفضائيات الدينية (مسلمة ومسيحية/ شيعية وسنيّة/ أرثوذوكسية وإنجيلية..)، والتأسيس لمشروع وطني لا طائفي أو تمييزي بالمرّة، وتربية التلاميذ على ذلك من الصغر ونزع القداسة -لا احترام- الماضي من عقولهم، وتسديد ضربات للعقلية الغارقة بالغيبية والطائفيّة ذاتها عبر الأعمال الفنيّة، وتعزيز حب الحياة والطموح للأفضل، في ظل ثقافة تربط هذا الطموح الفردي بالجمعي.. وهذا بدوره لن يتم في ظل مجتمع تابع تحكمه الشركات الغربية العملاقة، وتراقب موازنته، وتدعم تأسيس طبقة وكيلة داخلية تحتكر مظاهر الحداثة ومساحات الحياة، أو في ظل مجتمع بلا مشروع قومي جمعي أو أصالة وطنية أو تنمية ثقافية. الناس تريد الحياة الأفضل عامة والأرقى، وتنطلق من مصالحها الواقعية المادية.. لذا ستصطف، في عمومها، خلف المشروع الصاعد نحو ذلك. يجب، هنا، التأكيد دومًا أن غربان "السلفيّة الجهاديّة" ما كانوا ليعوموا على سطح بلادنا لولا الاحتضان الغربي، فسيادة السعودية الإقليمية، بحد ذاتها، ما كانت لتحصل لولا البيت الأبيض، وعليه فإموالها التي انتشرت في كل الأقطار ما كانت أن تدخل، ومن هذه النقطة يمكن أن تنطلق حتى تصل لاحتضان الإخوان في المراكز الأوروبية في ألمانيا وإنجلترا، مرورًا بأدوار المخابرات الغربية في التحالف مع "السلفية الجهادية" في أفغانستان والشيشان ويوغوسلافيا وميانمار وحتى أوكرانيا اليوم عبر تنظيمات "جوهر دوداييف" و"الشيخ منصور" المتحالفة مع النازيين الجدد هناك ضد الروس.. كما أن هذا التيار السلفي، استثمر جيدًا، في انهيار مشروع الصعود العربي، واستطاع توظيف حالة التبعيّة السياسية، ووجود فقر وتمييز اقتصادي وانفلات وغرائزيّة وتفكك اجتماعي، لصالح جذب الأنصار الرافضين لهذا الواقع والطامحين نحو تغييره، وهم بالختام ينتهون في خدمة السلطة العالمية المتسببة في هذه المساويء. في الحقيقة، لا يمكن تجاهل أنه بدون الدور الخارجي لكانت أجهزة الأمن قد نجحت في اكتساح وحصار هذه التنظيمات، وإرسالها إلى المحاكم لتلقّي عقابهم القانوني، كما يحدث مع أي تنظيم ديني مؤدلج ومتطرّف يظهر على هامش المجتمعات في أي دولة غربية أو شرقية، ويتبنّى فكرًا إقصائيًا إرهابيًا (وهذه التنظيمات تظهر بين حين وآخر في العواصم والضواحي الغربية، وتقتل وتشوّه مباني على أسس دينية وعنصريّة لكنها لا تحظى بالتغطية الإعلامية الكافية لدينا)، ولو اكتمل المشروع العربي المستقل والحداثي والناهض وأخذ مساحته في التطوّر وتخطي ذاته نحو الأفضل (بمعنى علاج أخطائه، والتطوّر تبعًا للتحديّات التي تواجهه)، لكان أولئك المهاويس الدينيين، محصور نطاق انتشارهم في دائرة ضيقة، يُشبهون بشكل أو بآخر أولئك المستعمين للإذعات الإنجيلية في الولايات المتحدّة، أو كأتباع الحركة الملكوتيّة «الداعية إلى تطبيق الشرع الكتابي وإقامة الدولة المسيحية»، أو كالهندوسية السياسيّة، وهي لها نسخة عنيفة، رغم أخلاقيّة الفلسفة أو الديانة.. لكن عرقلة هذه المشاريع بفعل ضربات خارجية، ومخططات استنزاف، ومحاولات مستمرة للاستثمار في الأخطاء الداخلية، أدّت لهذا الوقع المأزوم، ولا ننفي أن العامل الداخلي في مواجهة هذه المخططات كان «رحيمًا» أكثر مما يلزم الأمر.