2024-04-29 07:37 م

عبد الله بن الزبير.. القصة المنسية

2022-01-22

في عام 64 هجرية كان الحرم الشريف بمكة تلُفُّه أجواء من التوتر والقلق الكثيفيْن، بعد أن اقترب زحف جيش الشام الأموي من المدينة المقدسة، والتي لم يعُد أهلُها يشعرون بالأمان، بعد أن حمَلت إليهم الأنباء الصادمة خبرَ ما فعله الجيش في أهل المدينة المنورة المتمردين على خلافة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بعد أن انتصر عليهم في «موقعة الحَرَّة» أواخر عام 63هـ، وقتل قائد تلك الثورة عبد الله بن حنظلة الشهير بـ«غسيل الملائكة».

واستباح المنتصرون المدينة المنورة ثلاثة أيامٍ كاملة، أعمَلوا خلالها القتل والسلب والنهب في المهزومين، وقتلوا بعض الثوار بعد محاكماتٍ صورية، ولم يقبل مسلم بن عقبة المري قائد جيش الشام بيعة الطاعة ممن نجا من أهل المدينة إلا أن يبايعوا أذلَّاء بغير قيدٍ ولا شرط، ويعلنوا أنهم رهنَ ما يأمُر به الخليفة يزيد في أرواحهم وأموالهم.

لم تقلِّل وفاة قائد جيش الشام مسلم بن عقبة في الطريق من المدينة إلى مكة من مخاوف المكيين، فقد واصل القائد البديل الحُصين بن نمير السكوني مسيره بجيش الشام إلى مكة، وفي تلك الأثناء، وبعد مقتل الحسين عام 61هـ، ومع نقمة الحجازيين على الأمويين، كان جلُّ أهل الحجاز ومكة قد بايعوا عبد الله بن الزبير بالخلافة، والذي حاول تحصين مكة سريعًا بما استطاع من الأفراد والتجهيزات، حتى إنه قَبِل انضمام بعض الخوارج إليه بقيادة نجدة بن عامر للدفاع عن مكة والحرم ضد الجيش الشامي.

فرضَ الحُصيْن قائد الشاميين حصارًا شديدًا على مكة، واستمرت الاشتباكات بين الطرفين لشهريْن متتابعيْن، فقرر الشاميون في ربيع الأول عام 64هـ قصفَ مكة والحرم الذي تحصَّن به ابن الزبير بالمجانيق، وبالقذائف النارية، فتضرَّر الحرم كثيرًا، وطالت النيران الكعبة المشرَّفة.

لكن الأقدار خدمت ابنَ الزبير، فتوُفِّيَ الخليفة الأموي يزيد بعد أقل من شهرٍ من قصف الكعبة، فلم يجد الحصين مبررًا لمواصلة الحصار، وتفاوض مع ابن الزبير على أن يتركه وجيشه يطوفون بالكعبة ثم يرحلون إلى الشام، فوافق ابن الزبير. 

لم يدُر في خلد ابن الزبير في نشوة تلك اللحظة ما تُخبِّئه له الأقدار بعد سنواتٍ تسع شهدت أحداثًا جِسامًا في الحجاز والعراق والشام؛ إذ سيتعرض لحصارٍ أشد في الحرم أيضًا، ومن جيشٍ آخر من الشام، لكن يقوده من يفوق الحُصيْن قسوةً، وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، والآن نعود إلى الوراء في سجلِّ التاريخ حيث جذور ما حدث.

عبد الله بن الزبير.. فتوحات وصراعات
منذ يوم ميلاده في العام الثاني من الهجرة جعلتهُ الأقدار تحت الأضواء، فقد كان المولود الأول للمهاجرين في يثرب، بعد أن أشاع بعض اليهود أنهم قد سحروا المسلمين المهاجرين، فلا يولَد لهم ولد، وتذكر الرواية المشهورة أنَّ أول ما نزل في جوفه في حياته كان ريق الرسول، والذي مضغ تمرة في فمه، ثم وضعها في فم عبد الله، وقد بدت عليه منذ طفولته المبكرة علامات النجابة وقوة الشخصية، حتى إن أباه أخذه ليبايع الرسول وعمره سبع سنوات. 

لعب عبد الله بن الزبير دورًا مهمًّا في فتح إفريقيَّة (تونس وجوارها حاليًا) لا سيَّما في موقعة «سُبيطلة» الفاصلة عام 27هـ (648م) عندما شاركَ بنفسه في قتل جُرجير، ملك إفريقيَّة التابع لدولة الروم البيزنطيين، وانتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا رغم الفارق العددي لصالح الروم وحلفائهم، كما أسهم في عملية الجمع الثاني للقرآن في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

وبعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان عام 35هـ، وما تلا ذلك من وقوع الفتنة الكبرى، لعب عبد الله بن الزبير دورًا بارزًا في موقعة الجمل التي حارب فيها أبوه الزبير – ومعه طلحة بن عبيد الله، وخالته السيدة عائشة – ضد علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين، فقد قاتل عبد الله ضد جيش علي بضراوة، وأصيب إصاباتٍ جسيمة في تلك الموقعة الضارية.

أما في عهد معاوية بين عامي 41هـ-60هـ، فقد التزم عبد الله بالطاعة للخليفة، وشارك في الفتوحات مثل غزوة القسطنطينية عام 50هـ، وكثيرًا ما كان يسعى معاوية لضمان ولائه بالمال وكيْل المدائح، لكنه رغم ذلك كان من أبرز المناوئين لبيعة معاوية لابنه يزيد بالخلافة من بعده. 

ويبدو أن معاوية كان يخشى كثيرًا من مقاومة عبد الله بن الزبير لمشروع توريث يزيد، حتى بعد أن نجحت سياسة العصا والجزرة في ضمان بيعة كل المناطق الإسلامية باستثناء أفرادٍ معدودين منهم عبد الله، ولذا نُقل عنه في وصيَّته الشهيرة إلى ابنه وولي عهده يزيد التي تناولتها كتب التاريخ بصياغاتٍ مختلفة، تحذيرَه الشديد من خطورة ابن الزبير، وتحريضه ليزيد أن يضربه بيدٍ من حديد:

«وَأَمَّا الَّذِي يَجْثِمُ لَكَ جُثُومَ الْأَسَدِ وَيُرَاوِغُكَ مُرَاوَغَةَ الثَّعْلَبِ فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ فُرْصَةٌ وَثَبَ فَذَاكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنْ هُوَ فَعَلَهَا بِكَ فَظَفِرْتَ بِهِ فَقَطِّعْهُ إِرَبًا إِرَبًا، وَاحْقِنْ دِمَاءَ قَوْمِكَ مَا اسْتَطَعْتَ»*من وصية معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد ولم يتأخرْ يزيد في تنفيذ وصية أبيه منذ يومه الأول في الخلافة؛ إذ أرسل فورًا إلى ابن عمه وواليه على المدينة، الوليد بن عتبة، يطلب منه أخذ البيعة فورًا، وبمنتهى الحزم والشدة من سادة قريش الرافضين، وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير والحسين بن علي. 

العائذ بالحرم.. هكذا وصلت الخلافة إلى عبد الله بن الزبير
بناء على نصيحة الداهية الأموي مروان بن الحكم، استدعى الوليدُ بن عتبة، عبد الله بن الزبير إلى دار الإمارة في المدينة، مُبطِنًا أن يعتقلَه إذا رفض البيعة، فتفطَّن ابن الزبير إلى ما يُدَبَّر، فتحصَّن في بيته، ثم فرَّ ليلًا إلى مكة دون حراسة حتى لا يثير ضجة، وما إن وصل مكة حتى لزم الحرم المكي، وقال أنا عائذٌ بالحرم، وتجمع أنصاره حولَه في الحرم، وخرجت مكة عن سيطرة الأمويين.

عيَّن يزيد واليًا جديدًا على المدينة هو عمرو الأشدق، والذي عيَّن أخا عبد الله بن الزبير، واسمه عمرو، قائدًا لشرطة المدينة، لعداوتِه الشديدة لأخيه عبد الله، وبالفعل اعتقل عمرو العشرات من مؤيدي أخيه في المدينة، وعذبهم عذابًا شديدًا، ومنهم بعض إخوته.

ثم أرسل عمرو الأشدق جيشًا قوامه ألفا مقاتل، بقيادة عمرو بن الزبير، ليسيطر على مكة، على أن يصبح عمرو بن الزبير واليًا عليها بعد أن يأسر أخاه عبد الله بن الزبير ويرسله إلى دمشق في أكبالٍ من الحديد.

فشل التفاوضَ بين الأخَوَيْن للوصول إلى أي حلٍّ وسط، ووقع الاقتتال بين قواتهما في بعض ضواحي ومناطق مكة، وانتصرت قوات عبد الله، وأُسر عمرو مُصابًا، فعفا عنه عبد الله مما ذكر أنه حقه الشخصي، لكن دعا أهل مكة ليقتصوا من مظالم أخيه عمرو العامة، بصفته قائدًا في شُرطة الأمويين، فنتف الغاضبون لحية عمرو، وجلدوه مئات الجلدات، حتى مات بين أيديهم. 

ورغم ارتفاع أسهم عبد الله بن الزبير في مكة بعد تلك الأحداث، فإن معظم الأنظار كانت معلقةً بالحسين بن علي حفيد الرسول، والذي فرَّ أيضًا من المدينة إلى مكة، وترقَّب الناس خطواته التالية في مواجهة خلافة يزيد، ولم يبايعْ أحدٌ ابن الزبير بالخلافة في وجود الحسيْن. 

ثم كان ما كان من إرسال أهل الكوفة إلى الحسين يطلبونه عندهم ليبايعوه، وينصروه ضد يزيد، وإرساله ابن عمه مسلمًا بن عقيل إلى الكوفة ليمهِّد لخروجه إليهم، ثم نجاح الوالي الأموي على الكوفة عبيد الله بن زياد في قمع أنصار الحسين وقتل مسلم، وتمزيق شمل التمرد في مهده.

لكن الحسين كان قد خرج بالفعل إلى الكوفة غير عالمٍ بتلك التطورات السلبية، لتقع موقعة كربلاء عام 61هـ ويُقتل فيها الحسين وجُل من خرج معه من أهل بيته، وارتجَّ العالم الإسلامي بأسره – وما يزال يرتج- لتلك الواقعة.

وكان الحسين قبل خروجه من مكة إلى الكوفة، قد تناقش مع الكثيرين حول الخروج، وحاولوا إثناءه عن ذلك خوفًا من خذلان أهل العراق له، إلا عبد الله بن الزبير، فإنه في نقاشه مع الحسين كان يميل إلى تشجيعه على الخروج، وفسَّرَ البعض ذلك بأن ابن الزبير يريد أن يتخلص بذكاءٍ من الحسين، حتى تخلوَ له الأجواء من النفوذ الطاغي للحسين، وعزز هذا التفسير التآمري أن علاقة عبد الله بآل بيت علي لم تكن على ما يرام منذ موقعة الجمل عام 36هـ، لكن مما يُضعف هذا التفسير في نظر آخرين أن ابن الزبير اقترح على الحسين أيضًا إن خشيَ الخروج إلى العراق، أن يطلب البيعة بالخلافة في مكة أولًا قائلًا له:

«إِنَّكَ لَوْ أَقَمْتَ بِالْحِجَازِ ثُمَّ أَرَدْتَ هَذَا الْأَمْرَ هَا هُنَا لَمَا خَالَفْنَا عَلَيْكَ وَسَاعَدْنَاكَ وَبَايَعْنَاكَ وَنَصَحْنَا لَكَ»*عبد الله بن الزبير للحسين بن علي

فلم يقبل الحسين هذا، فعرض عليه ابن الزبير رأيًا ثالثًا، بأن يظل الحسين في مكة، ويبايعَ عبد الله بالخلافة، على ألا يأخذ قرارًا حاسمًا إلا بمشورته، لكن الحسين رفض هذا الاقتراح أيضًا، ومضى إلى مصيره في العراق.

ما إن وصلت أنباء مقتل الحسين إلى مكة، حتى ضجَّ أهلها بالحزن والغضب ضد الأمويين، وتعزَّزت مكانة عبد الله بن الزبير أكثر فأكثر، وظلَّ محتميًا بالبيت الحرام ممتنعًا عن بيعة الخليفة الأموي يزيد، إلا أن البيعة الفعلية لابن الزبير خليفة لم تقع إلا بعد وفاة يزيد بن معاوية عام 64هـ.

وفشل جيش الشام في الاستيلاء على مكة آنذاك، وجاءت كتب البيعة والتأييد إلى عبد الله من العراق وخراسان (إيران وأفغانستان الحالييْن) واليمن والحجاز ومصر، ولم يمتنع عن بيعته سوى بعض مناطق الشام، حيث المعقل الأهم للأمويين، وكذلك لم يُبايِعْه بعضٌ من كبار البيت العلوي مثل عبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية)،  متعذِّرين بأنه لم يجتمعْ عليه الناس بعد، فأحدث ذلك جفاءً كبيرًا بينه وبينهم. 

وقد حرص ابن الزبير في إمارته على إظهار الفارق بين حكومته واستبداد الخلفاء الأمويين بالرأي والقرار، وأن يكون أكثر رشادًا في توزيع أموال بيت المال وإنفاقه، وكان لا يقطع في أمرٍ كبيرٍ إلا بعد مشورة أهل الحل والعقد من أنصاره، فالتفَّ حولَه الكثير من المؤيدين، لا سيَّما من مناوئي الأمويين، وزاد من شعبيته أيضًا ما اشتُهر به منذ شبابه من الإقبال على العبادات والاعتكاف في المساجد، والبعد عن اللهو والتبذُل.

الخوف قاتل الرجال.. الخلافة الناقصة وفرصها الضائعة
«كان عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر كَثِير الصلاة، كَثِير الصيام، شديد البأس، كريم الجِدَّات والأمهات والخالات، إلا أَنَّهُ كانت فِيهِ خلال لا تصلح معها الخلافة، فقد كَانَ بخيلًا، ضيق العطاء، سيئ الخلق، حسودًا، كَثِير الخلاف، أخرج مُحَمَّد ابْن الحنفية، ونفى عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس إِلَى الطائف»*ابن عبد البر في كتاب «الاستيعاب في معرفة الأصحاب»، نقلًا عن علي بن زيد الجدعاني، وهو تابعيٌّ من البصرة

لعلَّ أبرز وصف يمكن أن نُلخِّص به خلافة ابن الزبير، هو خلافة الفرص الضائعة، فقد سنحت لعبد الله بن الزبير منذ اللحظة الأولى فرصًا استثنائية لحسم الصراع ضد الأمويين بالضربة القاضية، وسحق خلافتهم في معاقلها، والانفراد بسلطان الأمة الإسلامية، لكن كان ترددُّه، وخوفُه من المجازفة، وإصرارُه على الإقامة في مكة المكرمة عائذًا بالبيت الحرام بعيدًا عن الحواضر المؤثرة سياسيًّا واقتصاديًّا مثل دمشق والكوفة، من أبرز أسباب فوات تلك الفرص.

إلى جانب ما اشتُهر ابن الزبير في خلافته بالحرص الشديد في الإنفاق؛ مما صرف من حوله الطامعين في المال والجاه، ويُنسَب لعبد الله بن عباس قولٌ امتدح فيه كرم معاوية وحسن سياسته المالية، في مقابل ذم قتَر ابن الزبير.

وقد جاءت الفرصة الأولى الذهبية لابن الزبير بعد موت يزيد مباشرة؛ إذ عرض الحُصَيْن بن نمير – وهو قائد برجماتي متقلب الولاء – قائد جيش يزيد المحاصِر لمكة على ابن الزبير أن يُبايعه هو وجيشه، على أن يخرج معهم عبد الله إلى الشام ويسيطر عليها، ويأخذ البيعة من أهلها، وهي معقل الأمويين، ويحسم الصراع، فخشيَ ابن الزبير مغادرة مكة، ورفض العرض، واستنكرَ منه الحُصيْن هذا، وغادر بجيشه الكبير شمالًا إلى المدينة المنورة ثم الشام، فتدعَّم به موقف الأمويين كثيرًا ضد أنصار ابن الزبير هناك.

ولم يكد أمراء البيت الأموي المتشبث بالسلطة يستفيقون من صدمة الوفاة المفاجئة ليزيد بن معاوية، حتى دهمتْهم صاعقة ما فعله ابنه وولي عهده معاوية بن يزيد، والذي كان يميل إلى الزهد والعبادة، فقد جعل شرعية حكومة الأمويين على المحكِّ عندما خطب في الناس في دمشق بعد أسابيع قليلة من خلافته، وأعلن عجزه عن القيام بأعباء الخلافة، وأنه يرد الأمر إلى الشورى بين الناس يختارون الأصلح لهم، ثم اعتزل في بيته، ومات بعد أيامٍ فجأة.

زادت الاضطرابات في الشام مع تلك الاستقالة المفاجئة للخليفة، واختلفت أجنحة البيت الأموي فيمن يولُّونه بعد معاوية الثاني، لا سيَّما الجناحان السُّفياني (نسبة لأبناء أبي سفيان وأحفاده) والمرواني (نسبةً لمروان بن الحكم، والذي كان من أسنِّ الأمويين، وأكثرهم انخراطًا في السياسة منذ عهد الخليفة عثمان). 

وإزاء الفوضى السياسية العارمة في الشام، وارتفاع سهم ابن الزبير في مكة، كاد مروان بن الحكم أن يسافر إلى الحجاز ليبايعَ ابن الزبير، لا سيَّما وقد بايعتْهُ بعضُ مناطق الشام مثل قنَّسرين وحمص وفلسطين، وكان أمير دمشق حاضرة الشام الضحاك بن قيس الفهري هو أيضًا زُبيريُّ الهوى، وكان يعمل سرًا لتمهيد الأمر فيها لابن الزبير، وكان يتحرَّق لخروج ابن الزبير إلى الشام لينصره، لكن ذلك لم يكن.

خروج الأمويين من الحجاز إلى الشام
ولم يستفد عبد الله بن الزبير من الدرس القاسي الذي وقع لثوار المدينة في ملحمة الحرَّة عام 63هـ، عندما أخرجوا بني أمية ومواليهم من المدينة قبل أيامٍ من وصول جيش يزيد من الشام لقمع الثورة، فكان هذا الإخراج من أبرز أسباب هزيمة الثوار؛ إذ أخلف الأمويون عهودَهم، والتحقوا بجيش الشام وكشفوا للقادة ثغرات المدينة.

إذ اجتمع عبد الملك بن مروان – الخليفة الأموي الشهير فيما بعد – بمسلم بن عقبة قائد الجيش الأموي، ودلَّه بشكلٍ تفصيليٍّ على أفضل الطرق لاقتحام المدينة، وأنسب الأوقات من النهار لمهاجمة الثوار عندما تكون أشعة الشمس وحرارتها ضد المدافعين، فنفَّذ مسلم الخطة بحذافيرها، وانتصر انتصارًا ساحقًا واستباح المدينة.

وتكرر الأمر مع ابن الزبير الذي لم يسعَ للتحفظ على الأمويين في المدينة المنورة والحجاز، بل ذكرت بعض المصادر أنه أمر واليه على المدينة أن ينفيَهم، فخرجوا دون اعتراضٍ إلى الشام بعددهم وأموالهم بصحبة جيش الحُصيْن بن نمير عام64هـ، فمثَّلوا قوةً إضافية للأمويين في الشام الذي سيشهد معركةً فاصلةً بين الأمويين والزبيريين سترسم مصير الخلافتيْن المتصارعتيْن.

موقعة «مرج راهط» الفاصلة وضياع الشام ومصر
بينما كان مروان بن الحكم يتجهز للاستسلام لابن الزبير، قابله عبيد الله بن زياد والي العراق فارًّا من ثورة أنصار آل البيت، فحرَّضه ابن زياد على طلب البيعة لنفسه، فصادفت الفكرة هوىً في نفسه، والتفَّ حوله العديد من موالي الأمويين والقبائل العربية ذات الأصول اليمنية.

ثم عقد الأمويون مؤتمرًا جامعًا لهم في منطقة الجابية جنوب دمشق، تحت رعاية والي الأردن حسان بن مالك الكلبي شديد الولاء للأمويين، وبعد أيامٍ من المداولات، اتفق المجتمعون على مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة.

في تلك الأثناء احتشد أنصار ابن الزبير في الشام بقيادة الضحاك بن قيس الفهري، ومعظمهم من القبائل العربية المُضرية – نسبة إلى مُضر بن نزار، الجد السابع عشر للرسول – فجرت معركة مرج راهط الفاصلة قرب دمشق، بينهم وبين جيش الأمويين وأنصارهم اليمنية.

وكان ابن زياد قائد فرسان الجيش الأموي في الموقعة التي انتهت بانتصار ساحق للأمويين، ومصرع الضحاك، ومعظم القيادات الشامية الزبيريَّة، فما لبث مروان إلا قليلًا بعدها حتى أحكم سيطرته على كامل الشام وفلسطين.

ثم في مطلع العام التالي 65هـ، توجَّه مروان بجيشٍ كثيف إلى مصر، فضمها إلى سلطانه، وجعل ابنه عبد العزيز واليًا عليها، وبذلك انتزع الأمويون السلطانَ على أغنى إقليميْن إسلامييْن، وأصبحوا في وفرةٍ من الجنود والأموال. أما ابن الزبير فقد انشغل بأحداث العراق المتقلِّب المضطرب، والذي سيستنزف الكثير من موارده وشرعيته في صداماته المتتابعة.

وفي هذا العام توفي مروان بن الحكم بعد أن جعل ولاية العهد من بعده لابنه عبد الملك بن مروان، والذي سيكون المؤسس الثاني لدولة الأمويين، فما إن تسلَّم عبد الملك مقاليد الأمور في دمشق، حتى أرسلَ جيشيْن، أكبرهما إلى العراق بقيادة عبيد الله بن زياد ومعه بعض أبرز قادة الجيوش الشامية مثل الحصين بن نمير، أما الآخر فإلى المدينة المنورة، وإن كانت قوات ابن الزبير نجحت في إيقاع هزيمة ساحقة بالجيش الشامي القادم إلى المدينة، وقتلوا منه المئات فإن جيش ابن زياد سيكون له في العراق ملحمة تاريخية.

ثورات الخوارج
شهدت الساحة السياسية الملتهبة ظهورَ العديد من فرق الخوارج مثل النجدات (أتباع نجدة بن عامر) والأزارقة (أتباع نافع بن الأزرق) والصفارية (أتباع عبد الله بن الصفار) وغيرهم، وكان هؤلاء على قلة عددهم، شديدي الوطأة في القتال، والتمسك بآرائهم الدينية المتطرفة، وكانوا لا يمتدحون إلا حكومة الخليفتيْن أبي بكر وعمر، بينما كانوا يتبرأون من عثمان وعلي – الذي سحق أسلافهم في النهروان عام 37هـ – والأمويين. 

في بداية تمرد ابن الزبير ضد الأمويين، انضمَّ إليه جلُّ الخوارج نكاية في الأمويين، ودفاعًا عن مكة، فلما انتهت المعركة، امتحنوا أفكار ابن الزبير ليقرروا مواصلة دعمه أو لا، ودارت مناظرة بينه وبينهم حول الخليفة عثمان الذي كان الخوارج يرونَه مستحقًّا للقتل، فدافع ابن الزبير عن عثمان، وتبرَّأ من الخوارج، فانفضُّوا من حوله، وتفرَّقوا في البصرة واليمامة وخراسان وغيرها، ليواصلوا حربهم الصفرية ضد كافة المعسكرات، وعلى رأسها معسكر ابن الزبير.

كان هؤلاء الخوارج لا سيَّما الأزارقة يكفرون عامة المسلمين، ويرونَ أنه لا بدَّ من استتابتهم أو قتلهم على الردة، وتشتَّت الخوارج إلى فرقٍ عديدة وفقًا لاختلافاتهم في فروع أفكارهم، وفي مدى الغلو في تكفير الأمة.

وذاعت الأخبار بالمعارك الشرسة التي خاضها المهلب بن أبي صفرة والي خُراسان من قِبل عبد الله بن الزبير ضد الخوارج في البصرة ومناطق أخرى من أرض فارس، وكان المهلب مقاتلًا شديد الذكاء والحذر الدفاعي في آنٍ، فصمد كثيرًا أمام الخوارج، وظلَّ يحاربهم بعد عصر ابن الزبير تحت راية الأمويين.

وكان من أشد الخوارج نكايةً بابن الزبير، نجدة بن عامر، والذي سيطر على أجزاءٍ كبيرة من شرقي الجزيرة العربية، وألحقَ عام 69هـ هزيمة ساحقة بجيشٍ كبير أرسله ابن الزبير لمواجهته عام 69هـ، وأراد الهجوم على المدينة في العام نفسه، فاستنفرَ له أهلَها، فعدل عن ذلك.

ثم حاول فرضَ حصارٍ اقتصادي على الحجاز بمنع القوافل إليه، لكنه تراجع بعد أن عاتبه الصحابي عبد الله بن عباس في رسالةٍ قوية، وقد قُتل نجدة بعد قليلٍ من مقتل ابن الزبير على يد بعض الخوارج المنقلبين عليه لاختلافهم في بعض القضايا.

ملاحم العراق والصدام مع العلويين
بعد وفاة يزيد، ثار أنصار آل البيت في الكوفة والبصرة، واضطر الوالي الأموي ابن زياد – الذي قُتل الحسين بأمره – للفرار إلى الشام ليتسنَّى له تجهيز جيشٍ كبير يستعيد به السيطرة على العراق، وفي هذا الوقت برزت في العراق حركة التوابين بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي، والتي بدأت دعوةً سرية بعد قتل الحسينِ، ثم انضم لها المئات بعد وفاة يزيد، وكان الدافع لها الندمُ على خذلان الحسين، ووجوب إعلان التوبة بقتلِ قتلة الحسين.

أرسل ابنُ الزبير عبد الله بن يزيد الأنصاري واليًا على الكوفة، فأظهر التسامح مع حركة التوابين، بشرط ألا تُبطن الخروج على ولايته، ثم وردت الأخبار باقتراب ابن زياد بجيشٍ أموي كثيف لاستعادة العراق، فاستنفر التوَّابون، وكانوا يتدرَّبون في معسكراتهم بالكوفة جهارًا نهارًا استعدادًا للمواجهة، ثم واجهوا الجيش الشامي الأكثر عددًا وعدة في موقعة «عين الوردة» غربي العراق عام 65هـ، فهُزموا بعد قتالٍ عنيف، وقتل أكثرهم وفي مقدمتهم سليمان بن صرد، فالتفَّ من بقي من شيعة العراق الراغبين في الثأر للحسين حول المختار الثقفي.

«إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَثَبَ بِالْحِجَازِ، وَرَأَيْتُ ابْنَ نَجْدَةَ وَثَبَ بِالْيَمَامَةِ، وَمَرْوَانُ بِالشَّامِ، وَكُنْتُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ، إِلَّا أَنِّي قَدْ طَلَبْتُ بِثَأْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ إِذْ نَامَتْ عَنْهُ الْعَرَبُ»*المختار الثقفي نقلًا عن الكامل في التاريخ لابن الأثير

كان المختار بن أبي عبيد الثقفي من أبرز أنصار آل البيت في العراق، وكان يَعتدُّ بنفسه وبقدراته، وكان يمقت ابن زياد الذي ضربه وسجنه كيْ لا ينضمَ للحسين، فلما أُطلقَ سراحَه بعد كربلاء، كان يغلي بالغضب ضد الأمويين، فانضمَّ لابن الزبير في الحجاز وبايعه بالخلافة على أن يكونَ رجل دولته الأول، فقبل ابن الزبير مُكرَهًا لرغبته في نيل تأييد المختار، الذي قاتل بشراسة معه ضد جيش الشام عام 64هـ.

سرعان ما اختلفَ الرجلان؛ إذ غضب المختار لأن ابن الزبير لم يُسنِد إليه منصبًا كبيرًا، كما أنه قبل بيعة بعض قتلة الحسين ومن تواطأوا ضده من زعماء الكوفة، فغادر المختار إلى الكوفة عازمًا على الثورة تحت شعار الثأر للحسين، وانضمَّ إليه بعض أبرز فرسان العراق مثل إبراهيم بن الأشتر.

بدأت الثورة بقتل رئيس شرطة الكوفة التابع لابن الزبير، وأصبحتْ شوارع الكوفة ساحة حربٍ بين أنصار المختار ومناوئيه، وارتجَّت أحياؤها بهتافات الثأر للحسين، ومالت الكفة لصالح المختار رغم كثرة خصومه، فقد استبسل أنصارُه في القتال، لا سيَّما ابن الأشتر، وهزموا قوات والي الكوفة الزبيري، ثم حاصروه في دار الإمارة، فاستسلم سريعًا، وحصل أنصاره على الأمان من المختار، وبايعوه طوعًا وكرهًا على نصرة آل البيت والانتقام للحسين.

حاول المختار أن يطمئن الجميع حتى يستقر مُلكه في الكوفة وجوارها، وقرَّب الموالي من غير العرب لا سيَّما الفُرس، وعدل بينهم وبين العرب، مما أحنقَ بعض سادة القبائل العربية، ثم جاءت الأنباء بأن جيش ابن زياد متوجه مجددًا صوبَ العراق بعد أن انشغل لأكثر من عامٍ بالسيطرة على الجزيرة الفُراتية والموصل، فحاول مناوئو المختار من قتلة الحسين تدبير انقلابٍ ضده في الكوفة، فأفشله المختار بصعوبة.

ثم استغلَّ هذا في تتبع قاتلي الحسين، وقتل منهم المئات، ومنهم بعض الرموز، مثل شمِر بن ذي الجوشن، وعُمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش الذي قتل الحسين، لكن الكثير من المطلوبين فرَّوا إلى البصرة، حيث واليها القوي آنذاك مصعب بن الزبير، فقبل مُصعَب انضمامهم ليتقوَّى بهم.

«يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُلَقِّبُونَ أُمَرَاءَكُمْ، وَقَدْ لَقَّبْتُ نَفْسِي بِالْجَزَّارِ»*مصعب بن الزبير في خطبته الأولى واليًا على البصرة عام 67هـ

ثم أرسل المختارُ صفوة أنصاره بقيادة ابن الأشتر لمواجهة ابن زياد، فجرت موقعة «الخازر» الحاسمة عام 67هـ قرب الموصل، التي انتصرَ فيها ابن الأشتر انتصارًا ساحقًا بعد قتالٍ مرير، وقُتِل ابن زياد، ودُمَّرَ جيشه، وسقط كبار قادته مثل الحُصيْن بن نميْر الذي قصف الكعبة 64هـ، لكن لم يكد جيش المختار يهزم الشاميين حتى فاجأته أنباءٌ صادمة من الكوفة.

ففي غيبة الجيش، حشد مصعب بن الزبير جيشًا ضخمًا من البصرة وخُراسان، وفلول أهل الكوفة ومنهم قتلة الحسين مثل شبث بن ربعي، وكان هؤلاء الأشرس في القتال انتقامًا من المختار وانتصر جيشُ مصعب على جيشٍ أرسله المختار سريعًا، فلم يعُد أمام المختار سوى الخروج بنفسه للقتال، فدارت الموقعة الفاصلة قرب الكوفة، وانهزم أنصارُ المختار سريعًا، وانقلب عامة الكوفيين على الثوار، ثم حُوصر المختار في القصر، وتخلَّى عنه معظم من كان معه، فقاتلَ بمن صمد معه حتى قُتل.

ثم ارتكبَ مُصعب بن الزبير مذبحةً بحق الأسرى من أنصار المختار، بتحريضٍ من خصومهم من أهل الكوفة، فقتل منهم ما قدرتهُ بعض المصادر بـ7 آلاف، معظمهم من الموالي، رافضًا التماسَهم بإطلاق سراحهم مقابل محاربة الأمويين في الشام.

ثم كانت فاجعة أخرى عندما قتلَ مُصعَب زوجةَ المختار عمرة بنت النعمان الأنصارية التي رفضت التبرؤ من زوجها القتيل والإساءة إليه، وتحجَّج مُصعَب بأنَّ التحقيق معها أثبت أنها ترى المختار نبيًّا، وضربت تلك الواقعة سمعة دولة ابن الزبير في مقتل، ورثاها العديد من الشعراء، وحاول الزبيريون تبرير مقتل أنصار المختار، بأنَّه كان كذابا يُبطن الكفر، ويستغل ثأر آل البيت للوصول للسلطة، لكن آل البيت كانوا يدافعون عن المختار، فقال فيه ابن عباس:

«ذَاكَ رَجُلٌ قَتَلَ قَتَلَتَنَا، وَطَلَبَ ثَأْرَنَا، وَشَفَى غَلِيلَ صُدُورِنَا، وَلَيْسَ جَزَاؤُهُ مِنَّا الشَّتْمَ وَالشَّمَاتَةَ» 

أما إبراهيم بن الأشتر المنتصر على ابن زياد، فقد عرض عليه كلٌّ من ابن مروان وابن الزبير الانضمام إليهما مقابل العديد من الإغراءات، لكن كراهيته للأمويين كانت أشد، فبايع ابن الزبير على أن يكون معه على حرب الأمويين، واستُشهد بعد أعوامٍ قليلة في المعركة الفاصلة بين عبد الملك بن مروان ومصعب. 

«دير الجاثليق».. نهاية مُصعب
بعد أن ثبَّت عبد الملك بن مروان مُلكَه في الشام ومصر، وحصرَ الزُبيريين في العراق والحجاز، أراد توجيه ضربةٍ قاصمةٍ للخلافة الزبيرية التي أنهكَت مواردَها الحروب المتتالية مع الخوارج والشيعة، فحشد القوة الضاربة للجيش الشامي، وقاده بنفسه للاستيلاء على العراق عام 71هـ، بعد أن راسل رموز الكوفة وأغراهم بالمال والمناصب ليتخلَّوْا عن بيعتهم لابن الزبير، كما استعان عبد الملك بالحيلة السياسية لهز شرعية الزبيريين، فعرض على مصعب أن يستقيلَ هو وعبد الله بن الزبير، ويلجأ كلا الطرفيْن للشورى، فرفض مصعب.

«كَانَتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ»*عبد الملك بن مروان معلِّقًا على مقتل مصعب، وكان صديقًا قديمًا له

فما إن بدأت المعركة الفاصلة في منطقة «دير الجاثليق» بوسط العراق، حتى انهزمَ قادة جيش الكوفة المتواطئون مع الأمويين، وثبُت ابن الأشتر ومُصعَب، وقاتلا قتالًا شديدًا حتى قُتِلا، بعد أن رفض مصعب بإصرار قبول أمان الأمويين مقابل الاستسلام، كما كرَه الانسحاب إلى البصرة حتى لا يكون فارًّا من المعركة، وما لبث عبدُ الملك بعد مصرع مصعب أن أحكَمَ سيطرته على العراق كاملًا، وهكذا فقد ابن الزبير رجلَ دولته الأول، وقادة جيوشه الأهم، وكذلك فقد إقليم العراق الغنيَّ بالمال والرجال، فأصبح مصير خلافته المأزومة محتومًا، وبدأ العد التنازلي لإسدال الستار عليها.

فصل النهاية والحصار الأخير 
لم يبقَ أمام الأمويين سوى توجيه الضربة القاضية إلى الخلافة الزبيرية في معقلها بمكة، ونظرًا إلى قدسية الحرم، ورغبةً في ألا يصمَ نفسَه مباشرةً بهجوم على الحرم، أرسل عبد الملك بن مروان إلى الحجاز جيشًا كثيفًا من الشام بقيادة تابعه الشرس الحجاج بن يوسف الثقفي، والذي سيصبح بلا مُنازِع رجل المهمات المشينة للدولة الأموية على مدار ربع قرن من عمله السياسي معهم.

ضرب الحجاج حصارًا مُحكَمًا على مكة المكرمة أواخر عام 72هـ، وبدأ على الفور بإمطار مواقع أنصار ابن الزبير في الحرم وجواره بقذائف المنجنيق، وكان يرمى الأحجار بنفسه أحيانًا مع جنود الشام، كما أمرَ بفتح ممراتٍ مُحدَّدة في الحصار ليفرَّ أو ليستسلم عبرَها من يريد من أهل مكة أو أنصار ابن الزبير. 

وبالفعل، بمرور الأيام والأسابيع من الحصار المُطبق، ومع القتال الشديد المستمر في الشوارع وعلى تخوم الحرم، وعجز المُحاصَرين عن فكَّ الطوْق، دبَّ اليأس تدريجيًّا في نفوس الكثير من المقاتلين حول ابن الزبير، وبدأوا في التسلل عبر الممرات الآمنة، حتى بلغت تقديرات عدد المُنسَحبين نحوَ 10 آلاف، حتى إن حمزة بن عبد الله بن الزبير، كان من بين من حصلوا لأنفسهم على الأمان من أعداء أبيه.

ولم يبقَ مع ابن الزبير متحصِّنًا في الحرم سوى العشرات من خاصة الخاصة من أصحابه، فتأثرَّتْ معنوياته، واحتفى كُتَّاب التاريخ بلقاءٍ مؤثر جمعه بأمه الصحابية أسماء بنت أبي بكر ذات التسعين عامًا، شكا لها فيها ضعف حيلته، وتفرُّق الناس من حوله رهبًا ورغبًا، وهوان خلافته ومكانته عند الناس، فشدَّت من أزره، ودعتْه إلى الصمود والتشبث بمبادئه حتى اللحظة الأخيرة، وأكدت له أنها لا تقبَل منه أبدًا الاستسلام المهين للأمويين.

«يَا بني، لا تقبلَنْ منهم خطة تخافُ فيها على نفسك الذل مخافة القتل، فو الله لضربة سيفٍ فِي عز، خيرٌ من ضربة سوط فِي المذلة. إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامضِ له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن من رقبتك يتلعَّب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك»*أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما محدثةً ابنَها عبد الله بن الزبير أثناء حصاره الأخير في مكة

وتُجمع المصادر التاريخية التقليدية على اختلافها على إبراز صمود عبد الله بن الزبير داخل البيت الحرام، وقتاله المستميت، وقد تجاوز السبعين عامًا من العمر، حتى اللحظة الأخيرة مع خاصة من أخلصوا له من أصحابه وأنصاره، ضد أضعاف عددهم من قوات جيش الشام، القوة الضاربة الباطشة للأمويين. 

وينقل ابن عبد البر في كتابه «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» مشهدًا سينمائيًا مؤثرًا لمقتل ابن الزبير، بينما كان يرتجز الشعر الحماسي وهو ينتقل بسيفه من بابٍ إلى بابٍ من أبواب الحرم المكي، مجندلًا العشرات من مُقتَحميها من جنود الحجاج بن يوسف، حتى باغتتْهُ قذيفة منجنيق في رأسه فأصابته إصابة بليغة، لكنه واصل القتال حتى تكاثر عليه العسكر الشامي وقتلوه، وكان عدد من ثبتوا معه من أنصاره وقُتِلوا داخل الحرم 240 مقاتلًا.

ولسنا على الأعقابِ تدمَى كُلُومُنا … ولكن على أقدامنا يقطر الدم*بيت من الشعر الحماسي استشهد به ابن الزبير قبل لحظاتٍ من مصرعه على أرض الحرم

وقد دام حصارُ الحجاج لابن الزبير في مكة أكثر من ستة أشهر، بدأت من مطلع ذي الحجة عام 72هـ، واستمرت حتى منتصف العام التالي، في شهر جمادى الأولى من عام 73هـ، وقُطعت رأس ابن الزبير بأمر الحجاج، مع بعض أبرز أنصاره ومنهم عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف، وأرسلت إلى المدينة أولًا ثم إلى دمشق، بينما صُلبت جثته في مكة أيامًا.

وسجَّلت كتب التاريخ المساجلة الشهيرة بين السيدة أسماء ذات التسعين عامًا، والحجاج بن يوسف، عندما طالبته بتسليمها جثة ابنها لتدفنه، فأجابها الحجاج بغلظة، ووصفَ ابنها بـ«عبد الله بالمنافق»، فردت عليه أسماء بأنها سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يُحذر من خروج قاتل مُبير – مُهلِك – من ثقيف، وأنها تظن أن الحديث النبوي ينطبق على الحجاج.

ومما أضاف لهالة الشجن المحيطة بنهاية ابن الزبير المأساوية، أن الحجاج عندما أذعن بعد حين، وأنزلَ الجثة وسلَّمَها إلى أمه أسماء، فإنها غسَّلت ابنَها بنفسها وصلَّت عليه، ثم دفنته، ولم تلبثْ على قيد الحياة بعد ذلك إلا أيامًا قليلة.

وبوجهٍ عام، تحتفي غالبية المصادر التاريخية السنية بعبد الله بن الزبير وبخلافته، ولا تذكر اسمه إلا مشفوعًا بدعاء رضي الله عنهما، وتشيد بجهادِه الكبير في الفتوحات، وتروي قصة نهاية خلافته ومقتله بكثيرٍ من التأثر، ونُقِل عن الإمام مالك صاحب المذهب الفقهي أن ابن الزبير كان أولى من الأمويين بالخلافة.

في المقابل، تكادُ تُجمع المصادر الشيعية على ذم عبد الله بن الزبير – وكذلك أبيه الزبير – ابتداءً من قتاله ضد الإمام علي في موقعة الجمل عام 36هـ إلى جوار خالته السيدة عائشة، بل يُتَّهم أنَّه كان من أبرز من حرَّضوها على الخروج ضد علي، ويتداولون عبارة قاسية عنه منسوبة للإمام علي في نهج البلاغة لابن أبي الحديد (وهي مذكورة أيضًا في العديد من المصادر السنية)

«ما زال الزبيرُ رجلًا منَّا أهل البيت، حتى نشأ ابنُه المشؤوم عبد الله» 

وفي الأعمال الدرامية الحديثة التي تتبنى الرؤية الشيعية، مثل مسلسل «المختار الثقفي» (إنتاج إيراني) تُظهَر شخصية عبد الله بن الزبير في شكل السياسي الطمَّاع المتآمر الشَّرِه للطعام، والكاره لأهل بيت الرسول عليه، والحاقد عليهم، والذي قدَّم لأعدائه الأمويين خدمةً فريدة عندما سحق ثورة العلويين في العراق بقيادة المختار الثقفي، فانفرد به الأمويون وسحقوا خلافته.

المصدر: ساسة بوست