2024-05-11 01:23 م

آفاق المقاومة الشعبية الراهنة في فلسطين (1)

2020-10-13
بقلم: أليف صباغ
مراجعة نقدية لظروف الانتفاضة الأولى والثانية وسماتهما واحتمالية انتفاضة ثالثة، ومقارنة الوضع الراهن بالتجربتين السابقتين. في هذا الجزء إحاطة بالظروف الفلسطينية والإقليمية والدولية التي رافقت الانتفاضة الأولى.
بدايةً، لا بدَّ من التصريح بأنَّ المادة الموجودة بين أيديكم هي مراجعة نقدية وشخصية، إذ عايشت الانتفاضة الأولى بصفتي صحافياً ميدانياً في المناطق المحتلة في العام 1967. أما الانتفاضة الثانية، فتابعتها من خلال عملي في مؤسسة حقوقية داخل مناطق الـ48. وخلال ذلك، قمت بتوثيق أحداثها، بشهادات على عمليات قتل المتظاهرين الفلسطينيين داخل الـ48، ومتابعة عن قرب، وتوثيق لما صدر في وسائل الإعلام العبرية من تصريحات وتوجيهات للشرطة والجيش، والاطّلاع على تقارير حقوقيّة وأعمال قتل فرديّة ومجازر دمويّة، وما رافق ذلك من صراعات سياسيّة داخليّة في ما بين الإسرائيليين وفي ما بين الفلسطينيين أيضاً، وغيرها.
تتناول هذه المراجعة ظروف انطلاق الانتفاضة الأولى، والعوامل المحركة لها وميزاتها ونتائجها، مقارنة بظروف انطلاق الانتفاضة الثانية والعوامل المحركة لها وميزاتها ونتائجها، في محاولة لفحص احتمال انطلاق انتفاضة ثالثة، وظروف انطلاقها وعوامل نجاحها وتطورها الثوري، لتصل إلى تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعودة.
الظروف الفلسطينية والإقليمية والدولية التي رافقت الانتفاضة الأولى 
أول ما يتبادر إلى ذهن من عاصر تلك الفترة هو خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان في العام 1983، ومحاصرتها في الصحراء التونسية، وانهيار منظمة التحرير الفلسطينية مادياً، إلى درجة أنها باعت عقاراتها، وأغلقت عدداً كبيراً من مكاتبها في العالم، بعد أن جفَّت منابع التمويل الذاتي والعربي. 
وبعد أن كرّس بعض العرب جهودهم لمحاربة الثورة الخمينية في إيران، بدلاً من دعم الثورة الفلسطينية ومحاربة الاحتلال الإسرائيلي، وانعكس ذلك على الفلسطينيين عامة، روّج من روّج بأنَّ "أبواب القتال ضد الاحتلال أصبحت مغلقة أمامكم"، فردَّ الدكتور جورج حبش في اجتماع المجلس الوطني المنعقد في الجزائر، متسائلاً: "هل الأبواب مغلقة أكثر مما كانت مغلقة في العام 1965 عندما انطلقت الثورة الفلسطينية؟"، مشيراً إلى ضرورة الاعتماد على الذات أولاً، وليس على العوامل الخارجية.
وأنهى خطابه بتأكيد قناعته، ومفادها: "إن فلسطين لن تُحرّر إلا من خلال ثورة فلسطينيّة ملتحمة مع حركة التحرر القومية العربية"، ودعا جموع أبناء الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة، من فلسطين وحتى أميركا اللاتينيّة، مروراً بالدول العربية، إلى "عمل تعبوي إعلامي وسياسي ينادي بحق الشعب الفلسطيني في وطنه، لكي يبقى الشعب الفلسطيني طليعة للنضال ضد الصهيونية والإمبريالية". 
بعد الخروج من بيروت، انعكس الإحباط على شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل خاصّ، حتى بدا ظاهرياً أنهم استسلموا للاحتلال الإسرائيلي، وانكفأوا لمعالجة حياتهم اليوميّة، بعيداً من حلم الثورة والاستقلال والسيادة. ورغم ذلك، شاهدنا في منتصف الثمانينيات خروج جموع فلسطينيّة في مسيرات سلمية حيناً، وصاخبة أحياناً أخرى، في الذكرى السنوية لانطلاق الثورة الفلسطينية، أو انطلاق هذا التنظيم أو ذاك، وانتهت هذه التظاهرات أحياناً بصدام عنيف مع قوات الاحتلال. مثل هذه الهبات القصيرة تكرّرت كلّ سنة في هذه المناسبات، إضافة إلى مناسبة يوم الأرض، وقد رأى فيها المتفائلون تمارين نضالية تسبق التحرك الكبير، بينما رأى فيها آخرون نضالات لا تؤتي ثماراً.
في النّصف الثاني من الثّمانينيات، واجه الشعب الفلسطيني انتكاسة إضافية على المستوى الدولي، بفقدان حليفه الدّولي الأكبر المتمثل بالاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. وعشية اللقاء التاريخي بين ريغن وغورباتشوف في واشنطن يوم الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر 1987، بقيت العيون الفلسطينية شاخصة إلى هذا اللقاء الدولي، لعلّ وعسى أن يبحث المجتمعون قضية فلسطين، ويخرجوا بمبادرة دولية لحلّها بالطرق السلميّة، ولكن اللقاء بين الزعيمين الأكبرين في العالم انتهى من دون أن تذكر قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، فأضاف هذا الحدث إحباطاً إضافياً إلى المحبَطين، لكنه في المقابل أوصل المتحفّزين إلى استنتاج يقول: إن الاعتماد على الذات هو الضمانة الأهم لاستمرار الثورة وانتصارها.
وفي اليوم التالي (9/12/1987)، قام سائق شاحنة عسكرية إسرائيلية بدهس مواطنين فلسطينيين في حي الشجاعية في غزة، فكان الرد الفلسطيني قوياً، وسرعان ما انتشر ليشمل قطاع غزة والضفة الغربية، وهو ما سمي بالانتفاضة الأولى.
ساعد في ذلك معنوياً قيام فدائيين فلسطينيين ليلة 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 بعملية جريئة ونوعية، بركوب طائرتين شراعيتين، هبطت إحداهما في جنوب لبنان، فأطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار على قائدها وقتلوه، بينما هبط الثاني قرب معسكر للجيش في شمال فلسطين، واستطاع أن يقتحمه ويقتل ستة جنود، منهم ضابط، وجرح 8 آخرين، واستشهد بعد أن نفدت ذخيرته. وقد أطلق على هذه العملية اسم "ليلة الطائرات الشراعية". مثل هذه العملية رفعت من المعنويات المتفائلة، وأخرجت البعض الآخر من الإحباط المسيطر عليه.
إذاً، انطلقت الانتفاضة الأولى بالاعتماد على الذات في ظروف فلسطينية سيئة، وظروف عربية وإقليمية أسوأ، وظروف دولية تهدد بتصفية قضية فلسطين بالكامل. انطلقت الانتفاضة الأولى بتحرك شعبي عارم، وليس بمبادرة نخبوية وعملية حشد للجماهير، كما اعتدنا أن نراقب الثورات، ومنها الثورة الفلسطينية في العام 1965.
إذاً، فرضت الجماهير الفلسطينية المنتفضة نفسها على النخبة من المثقفين الثوريين وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وكان قسم كبير منهم قد غرق في حالة إحباط أو تردّد.
يمكن تلخيص أهمّ سمات الانتفاضة الأولى بما يلي:
1. الاعتماد على الذات الفلسطينية، بغض النظر عن الظروف والعوامل الخارجية
2. الطابع السلمي للحراك الجماهيري الواسع، والجرأة في مقاومة قوات الاحتلال.
3. الطابع التحرري فيها، الأمر الَّذي أكسبها تضامن الشعوب الأوروبية وشعوب العالم الثالث على حد سواء.
4. القدرة على اختراق الشارع الإسرائيلي، من خلال حركات إسرائيلية مناهضة للحرب، جذورها في حركة "يوجد حد" الّتي تشكّلت إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1982، وحركة "كفى للاحتلال" التي تشكّلت ونشطت خلال الانتفاضة الاولى، ومجموعة "نساء بالسواد" التي نشطت في القدس بشكل خاص، وحركات أخرى.
5. حدَّدت الانتفاضة أهدافها بالتحرر من الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، ما حدا بالمجلس الوطني الفلسطيني إلى أن يتبنّى هذا الهدف في اجتماعه المنعقد في العام 1988. 
6. وأهم ما تميزت به الانتفاضة الأولى هو تنبّه القيادات الميدانية غير المعروفة إلى ضرورة تنظيم الانتفاضة وتحولها من حركة عفوية إلى حركة ثورية منظَّمة، بهدف تحويلها إلى ثورة شعبية للتحرر من الاحتلال، فصدر البيان رقم واحد من أفراد، داعياً إلى تنظيم الصفوف، فأنشئت "القيادة الموحدة للانتفاضة"، وصدرت البيانات اللاحقة باسم القيادة الموحّدة للانتفاضة، من دون أسماء. 
وبغض النظر عن الانتماء الفصائلي، احتضنتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج في وقت لاحق. وقد عبّرت هذه القيادة عن وحدة الشعب الفلسطيني بكل أطيافه الاجتماعية والسياسية وأماكن تواجده، لتحقيق الهدف الأساس، وهو التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وعجزت المخابرات الإسرائيلية في السنة الأولى عن معرفة أسماء أعضاء القيادة الموحدة وكيفية التواصل في ما بينهم، رغم طابور العملاء الذين خدموا الاحتلال لعقدين من الزمن.
7. هنا لا بدَّ من الإشارة أيضاً إلى أن العملاء كانوا خلال الانتفاضة الأولى الأداة الأهم للاستخبارات الإسرائيلية، وقد تجاوز عددهم، بحسب ما تبين لاحقاً، 10 آلاف عميل.
نتائج الانتفاضة الأولى
على الرغم من الطابع السلمي للانتفاضة الأولى، وربما بسبب الطابع السلمي هذا، وطابعها الجماهيري في الأساس، واحتضان منظمة التحرير الفلسطينية لها، كقيادة سياسية ووطنية للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من الظروف العربية والدوليّة المتمثلة بغياب المنظومة الاشتراكية، إذ فقد الشعب الفلسطيني حلفاءه الذين دعموه لعقدين سابقين، وغياب الدعم العربي الرسمي، لا بل الضغط العربي الرسمي على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لتقديم تنازلات توطئة لقبول "إسرائيل" بالتفاوض مع وفد فلسطيني غير مستقل، وإنما ضمن الوفد الأردني، فإن الانتفاضة استطاعت تحقيق أهداف كبيرة لم يكن يحلم بها أحد قبل انطلاقها، وذلك بفضل الاعتماد على الذات أولاً، وبفضل الالتفاف الجماهيري والتلاحم مع القيادة السياسية الوطنية في الداخل والخارج. وقد أجبرت المحتلّ الإسرائيلي على الاعتراف بمنظمة التحرير والتفاوض معها للوصول إلى حل سلمي. 
وفي خضمّ الضغط العربي على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وفي قمة الانتفاضة، وتمهيداً لمفاوضات مدريد، رد المرحوم صلاح خلف (أبو إياد) على من يطالبون المنظّمة بالتخلي عن الكفاح المسلّح والتوجّه إلى المفاوضات فقط، فقال: "من هو الحمار الذي يذهب إلى التفاوض وهو يتخلى عن الكفاح المسلح، إلا من يريد أن يخدم أعداءه؟"، وهو ما يعني أنه يطالب بالدمج بين كل الأدوات النضالية المتوفرة للوصول إلى الهدف.
ربما كان هذا الموقف هو ما دعا إلى اغتياله تمهيداً لعملية التفاوض السلميّ، لكن في الواقع دخلت المنظمة إلى المفاوضات ضمن الوفد الأردني، وتحرَّرت منه لاحقاً، لتشكّل وفداً فلسطينياً مستقلاً، مع التزام بوقف الكفاح المسلّح، بينما بقي الاحتلال يمارس القمع والتنكيل والقتل والاستيطان في ظلِّ المفاوضات من دون توقف.
هل وصلت المقاومة آنذاك إلى "الحالة الثورية"؟ 
إذا أخذنا بالاعتبار أنّ كلّ حالة ثورية تكون مختلفة عن غيرها في التفاصيل، ولكنَّها متشاركة معها في الجوهر، يمكن الإجابة على هذا السؤال بنعم، ولكن ما المعوّقات التي حالت دون تحقيق الاستقلال والسّيادة؟
أعود للإضاءة على العامل الداخلي مرة أخرى، نظراً إلى أهميته. لم تكن العوامل الخارجية خلال سنوات الانتفاضة وما تلاها من مفاوضات في مدريد، مساعدة في انتصار المقاومة، بل على العكس، كانت عوامل ضاغطة. ورغم ذلك، حقَّق الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد إنجازات عظيمة اعترف بها العالم، ورفعت من شأن الشعب الفلسطيني، وكان أداء الوفد الفلسطيني قد أذهل الإسرائيليين أنفسهم.
 لم يتأثر الوفد بأي ضغوطات خارجية، بل تصدّى لها، وبقي واضحاً في مواقفه، وصامداً أمام كل الضغوط العربية والدولية على عتبة إنجاز تاريخي حقيقي يناسب الحالة الثورية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، إلا أن المفاوضات الجانبية التي جرت في أوسلو من خلف الكواليس، تحت شعار إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبنفسية العاجز عن تحقيق الهدف، الذي يقبل بما يقدّم له، وبأيّ شروط، أحبطت الحالة الثورية والوفد المفاوض في مدريد، وخرجت النتائج باتفاق أوسلو بكل موبقاته التي نعرفها ونعيشها لغاية اليوم. 
مرة أخرى، لم تكن العوامل الخارجية نصيرةً للمقاومة، ولم تستطع أن تثنيها عن تحقيق أهدافها، بل كان العامل الداخلي هو مصدر القوة، وكان قبول الضغوط الخارجية، العربية بشكل خاص، وتساوق بعض القيادات الفلسطينية معها، هو مصدر الضعف. 
في التّلخيص، لقد ارتقت الحالة الفلسطينية إلى حالة ثورية في خضمّ الانتفاضة الأولى، ولكن هناك عوامل داخلية وأخرى خارجية، عربية بشكل خاص، أعاقت تحقيق الإنجازات المطلوبة بالتحرّر من الاحتلال.
انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، خلافاً لظروف الانتفاضة الأولى، بوجود سلطة وطنية فلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة، لديها قوى أمنية تحمل سلاحاً خفيفاً، خلافاً لأي ظروف نضالية سابقة، كما أنّها انطلقت بعد أن استُنفد التفاوض العبثي مع المحتل الإسرائيلي، واقتنع الشعب والقيادة بضرورة العودة إليها، بانتظار الشرارة، وهذا ما كان يدركه الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء. 
وفي الوقت ذاته، انطلقت هذه الانتفاضة في ظروف دولية أحادية القطب، أسوأ مما كانت عليه الظروف الدولية عشية الانتفاضة الأولى: مجتمع دولي أميركي القرار وصهيوني الهوى، وفي ظروف عربية غلب عليها الضعف والتشرذم والانقياد التام إلى الإرادة الأميركية، وهي ظروف أسوأ أيضاً مما كانت عليه الظروف العربية عشية الانتفاضة الأولى.
ورغم ذلك، فشلت كل المحاولات العربية والدولية عامة، والأميركية خاصة، في تدجين الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، وفشلت التهديدات لقيادته، وعلى رأسها الرئيس ياسر عرفات. لقد أبدى الرئيس عرفات مرونة لم يتوقعها أحد في التفاوض مع المحتل الإسرائيلي، حتى اتهمه البعض بالتفريط والخيانة، ولكنّه في نهاية الأمر أبى في كامب ديفيد في نهاية أيلول/سبتمبر 2000، أن يوقّع على اتفاق لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المعترف بها دولياً.
عندها، قرَّرت حكومة "إسرائيل" تنفيذ تهديداتها "بتركيعه" بالقوة. وعلى الرغم من كل التحذيرات الفلسطينية وغيرها، اقتحم أريئيل شارون باحة الحرم القدسي يوم الخميس 28 أيلول/سبتمبر، بالتنسيق المسبق مع رئيس الحكومة إيهود براك، رغم معرفتهما المسبقة للنتائج المترتبة على ذلك. 
وبذلك، أعلن شارون انتهاء الستاتيكو المعترف والمعمول به إسرائيلياً منذ حزيران/يونيو1967، والَّذي يقضي بصلاحية إدارة الأوقاف الإسلامية للحرم، وبعدم دخول المصلين اليهود إلى باحة الأقصى، وكذلك الشخصيات السياسية لـ"دولة" الاحتلال، فكان الرد الفلسطيني، الشعبي والرسمي، أشبه بما كان عليه في بداية الانتفاضة الأولى.
تصدّى المصلون المسلمون لقطعان المستوطنين، وعلى رأسهم شارون، على الرغم من الحماية الأمنية المدجّجة بالسلاح، وقوامها 3000 جندي وشرطي. وفي اليوم التالي، نفَّذت قوات الاحتلال مجزرة ضد المصلين في الأقصى، راح ضحيتها 7 شهداء وأكثر من 250 جريحاً، سميت بـ"مجزرة الأقصى الثالثة"، لكن ذلك لم يثنِ الشعب الفلسطيني، بل زاد الانتفاضة اشتعالاً في القدس والضفة والقطاع، وكذلك في مناطق فلسطين العام 1948، وقامت قوات الاحتلال بتنفيذ مجزرة إضافية استشهد فيها 13 شاباً فلسطينياً من فلسطينيي 48، خلال تظاهرات احتجاجية سلمية سميت "هبة أكتوبر" أو "هبة القدس والأقصى"، تلاحماً مع شعبهم الفلسطيني، ودفاعاً عن الحقوق الفلسطينية المغتصبة.
ويمكن القول، مرة أخرى، إنَّ المبادرة في الردّ كانت شعبيّة عامّة، شرّعتها القيادة الفلسطينية مسبقاً، والتقطتها النخبة السياسية، لتقودها لمدة ثلاث سنوات تقريباً، رغم المجازر التي ارتكبها الاحتلال، ورغم حصار المقاطعة والرئيس عرفات، ورغم المؤامرات العربية والدولية التي حيكت ضد الثورة الفلسطينيّة وقياداتها. ولم تنته الانتفاضة إلا باستشهاد الرئيس عرفات في تشرين الثاني/نوفمبر 2004.
مقارنة بالانتفاضة الأولى، يمكن تلخيص أهم سمات الانتفاضة الثانية بما يلي:
1-     الطابع الدموي لنهج قوات الاحتلال منذ اللحظة الأولى، إذ استخدمت نيرانها بكثافة ضدّ الجماهير الفلسطينية، العزلاء من أيّ وسيلة دفاعية، في باحة الأقصى، وسرعان ما استهدفت بطائراتها الحربيّة مراكز قوى الأمن الفلسطينية، لتخلق انطباعاً وكأنَّ الحالة هي معركة بين قوتين مسلّحتين. وهكذا، تمت عسكرة الانتفاضة، فاختلفت بذلك عن الانتفاضة الأولى التي تميّزت بالطابع السلمي غير المسلّح.
2-     كان اقتحام شارون لباحة الأقصى بالذات اختياراً مقصوداً في تقدير الكثيرين، وكان تصدي المسلمين لهذا الاقتحام سبباً كافياً لإعطاء الانتفاضة طابعاً دينياً إسلامياً، باعتبارها دفاعاً عن المقدّسات الإسلامية، وعلى رأسها الأقصى المبارك. وعليه، أصرّ الإسلاميون على تسميتها بـ"انتفاضة الأقصى". 
من ناحية ثانية، رأى آخرون أنّ اختيار المحتلّ الإسرائيلي لتفجير الانتفاضة في باحة الأقصى، إنما يهدف إلى تحويل الصراع السياسي إلى صراع ديني. أما هدف الانتفاضة، فهو أكبر من الدفاع عن الأقصى، وإنما هو التحرّر الكامل من الاحتلال، فأطلق مروان البرغوثي عليها اسم "انتفاضة الاستقلال" بدلاً من "انتفاضة الأقصى". المهم أنَّ هذه التسمية أو تلك لم تثر خلافات وصراعات مكشوفة في الساحة الفلسطينية، كما أنَّ الخلاف بين حماس وفتح حول أوسلو ونهج السلطة الفلسطينية عامة والاستمرار في المفاوضات العبثية، لم ينعكس ميدانياً.
لقد وحّدت الانتفاضة القوى الفلسطينيّة في معركة واحدة ضدّ المحتل الإسرائيلي، متغاضين عن الخلافات أو الصراعات السياسية الداخلية. ويمكن القول إن العلاقة الشخصية التي كانت تربط الرئيس عرفات بالشيخ أحمد ياسين، والاهتمام الخاصّ الذي أولاه عرفات لهذه العلاقة، خفَّفا من الخلافات وزادا من اللحمة الوطنية، وخصوصاً في ظّل الانتفاضة والتصدي المشترك للاحتلال.
3-     خلال الانتفاضة الثانية، قامت مجموعات فدائية وأفراد بعمليات تفجير استشهادية في القدس وأماكن أخرى داخل المدن أو الأحياء اليهودية ضد مدنيين وعسكريين ومستوطنين على حد سواء، رداً على المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني، من دون تمييز بين مدني وغير مدني.
هذه العمليات أضفت على الانتفاضة طابعاً عسكرياً، إضافة إلى تكريس الطابع الدينيّ. اعتقد البعض أنَّ ذلك يعزّز التضامن العربي الإسلامي، ولكنه في تقدير الآخرين، إضافة إلى أسباب أخرى، أفقد الانتفاضة دعمها الشعبي الدولي، خلافاً للدعم الذي حازته الانتفاضة الأولى، كما أفقدها إمكانية اختراق الشارع الإسرائيلي.
4-     عانت قوات الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية من انعدام المخابرات الميدانية، بسبب غياب العملاء الَّذين خدموا المحتل في الانتفاضة الأولى وفرّوا في ظلّ السلطة الفلسطينية إلى "إسرائيل"، فحاولت "دولة" الاحتلال نشرهم من جديد. وقد اعتقلت قوات الأمن الفلسطينية قسماً منهم، فلجأت "إسرائيل" إلى مداهمة السجون لتحريرهم وإعادتهم إليها. 
ورغم ذلك، استطاعت المخابرات الإسرائيلية النفاذ إلى صفوف الانتفاضة، من خلال أدوات استخباريّة أخرى، ومنها أدوات تكنولوجية حديثة، وأهمها الهواتف والحواسيب وأجهزة التصّنت التي زرعتها في أماكن متعدّدة من الضفة والقطاع، ولم تستغنِ عن عملاء ميدانيين لتحديد أهداف تقصفها الطائرات، بما في ذلك الطائرات من دون طيار، لاغتيال قادة الفصائل وقادة ميدانيين. إذاً، كان استخدام التكنولوجيا الحديثة إحدى الأدوات المهمّة التي استخدمها الاحتلال بديلاً جزئياً من العملاء الميدانيين، كما استُخدمت الطائرات من دون طيار لتنفيذ عمليات الاغتيال، وهذا أيضاً ما ميّز الانتفاضة الثانية.
مرة أخرى، نقف عند السؤال: هل ارتقت الانتفاضة الثانية إلى مستوى الحالة الثورية؟
الجواب هو نعم، ولكن لم نستطع خلخلة توازن المجتمع الإسرائيلي، كما فعلت الانتفاضة الأولى، ولم نستطع كسب تضامن الرأي العام الدولي. أما على المستوى الإقليمي، العربي والإسلامي، فقد تمخَّض "التضامن" مع الانتفاضة عن تقديم تنازلات كبيرة للمحتل الإسرائيلي، من خلال ما يُسمى "مبادرة السلام العربية" للعام 2002، التي تنازلت عن حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين، وربطته بموافقة "إسرائيل" على ذلك، رغم أنها لن توافق عليه. 
إضافة إليه، التزم العرب لـ"إسرائيل" مسبقاً في مؤتمر القمّة المنعقد في بيروت 2002، بأن يقيم كلّ العرب والمسلمين علاقة طبيعية معها في حال وافقت على المبادرة. هذه التنازلات قدّمت ضمن "سياسة الاسترضاء" التي انتهجها العرب مع "إسرائيل" طيلة عقود من الزمن، وثبت مرة بعد أخرى أنّها نهج سياسيّ فاشل، بل هي ما يزيد الإسرائيليين شعوراً بالقوة والاستعلاء والغطرسة.
لم تكن ظروف اندلاع المواجهات مع قوات الاحتلال خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة أفضل مما كانت عليه عشية الانتفاضتين الأولى والثانية. العالم منشغل برسم نظام دولي وشرق أوسطي جديدين، وكلٌّ في هذا الشرق يبحث عن موقعه ومصالحه (وهذا أيضاً من ميزات الوضع الدولي عشية الانتفاضة الأولى).
خلال هذه السنوات، سقطت بعض الأنظمة العربية، وبعضها مهدَّد بالسقوط باسم ثورات تسيطر عليها قوى رجعية دموية ومتخلفة، متحالفة أو مدعومة من أميركا وفرنسا و"إسرائيل"، ومموّلة من أنظمة النفط الرجعية أو أصحاب الأحلام العثمانية، وبعضها الآخر منشغل بالدفاع عن بقائه، وثالثهم وظّف ويوظّف مئات المليارات لإحراق وتدمير بلاد عربية كانت بالأمس منارة وسنداً وطنياً للشعب الفلسطيني. أضف إلى ذلك ظروفاً فلسطينية يسيطر عليها الانقسام السياسي والفصائلي إلى أبعد الحدود، إلى درجة وجود سلطتين فلسطينيتين؛ الأولى في رام الله والثانية في غزة، وهو ما لم نشهده عشية الانتفاضتين السابقتين.
ليس هذا فقط، بل نستطيع أن نميز غُربة لم يشهدها الشعب الفلسطيني من قبل، ما بين مجمل المواطنين من جهة، والقيادة السياسية المتمثلة بالسلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس من جهة ثانية. إنهما عالَمان مختلفان! وإذا كانت الانتفاضة الأولى قد شهدت ملامح فساد هنا وهناك، وشهدت الانتفاضة الثانية ظاهرة أكثر انتشاراً، فقد أصبح الفساد المالي والأخلاقي والمصلحة الفردية على حساب المصلحة الوطنية العامة في السنوات الأخيرة سمات مميزة للقيادة السياسية النافذة.
اقتصادياً، تعاظمت قوّة ونفوذ البنوك وأصحاب رأس المال الاستثماريّ في ظلّ السلطة الفلسطينية، فأغرق القطاع الحكومي بالموظفين، وأغرِق الموظّفون في الديون لأصحاب البنوك، وتعاظم ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي من خلال اتفاقيات باريس الاقتصاديّة.
رغم ذلك، استمرَّت المقاومة الشعبية الفلسطينية خلال السنوات الماضية، وأخذت أشكالاً مختلفة، منها المسيرات الشعبية السلمية، وأحياناً بمرافقة قوى إسرائيلية مناهضة للاستيطان وللاحتلال عامة، باتجاه قرية بلعين على سبيل المثال. هذه المسيرات، على الرغم من سلميَّتها، حصدت أرواحاً فلسطينية كثيرة، ومنها الوزير الشهيد زياد أبو عين، ولم تتردد قوات الاحتلال والمستوطنون على حد سواء في إطلاق النار باتجاه المتظاهرين، ما كان يوقع عدداً من الإصابات في صفوفهم.
من ناحية أخرى، شهدنا في السنوات الأخيرة محاولات متكرّرة ومكثّفة لجماعات متديّنة يهودية متطرّفة، مدعومة من قوات الاحتلال، لاقتحام باحة الحرم القدسي أسبوعياً ومحاولة الصلاة فيه. وكان المصلون المسلمون يتصدّون لهذه المحاولات بالتكبير والاشتباك مع قوات الاحتلال المرافقة للمستوطنين.
كان هدف هذه المحاولات، وما يزال، هو فرض أمر واقع جديد يكرس السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الحرم القدسي، وفرض طابع ديني على الصراع وعلى أي رد فلسطيني. وكانت الهبة الشعبية الفلسطينية ضد نصب كاميرات في باحة الأقصى ووضع بوابات إلكترونية لمراقبة دخول المصلين المسلمين، إحدى أهم المحطات لهذه المقاومة الشعبية.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بقوة سطوته، فرض صفقته بتسوية مذلة للشعب الفلسطيني وقيادته تنتهك أبسط الحقوق المشروعة لشعبنا، لكنه عجز عن فرض سطوته على الشعب الفلسطيني وقيادته.
في المقابل، استطاع أن يخترق النظام العربي، ويجر بعضه إلى إقامة علاقات رسمية مع "دولة" الاحتلال، على قاعدة مبادئ صفقة ترامب، ضارباً بعرض الحائط الحقوق الفلسطينية المعترف بها دولياً والمبادرة العربية للتسوية، لا بل دفعهم إلى إنشاء تحالف عسكري إسرائيلي - عربي ضد إيران، وضد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وأمور أخرى.
وفي قطاع غزة المحاصَر، على الرغم من الضربات العسكرية الموجعة التي تلقّتها المقاومة وعموم أبناء الشعب الفلسطيني هناك، جراء القصف الهمجي المدمر خلال 3 حروب عدوانية على القطاع (2008، 2012، 2014)، وعلى الرغم من الحصار الاقتصادي والسياسي الخانق، فإنَّ فصائل المقاومة المسلَّحة نجحت في تطوير أسلحتها وأساليب مقاومتها، وهي مستمرّة في تجهيز نفسها عسكرياً ولوجستياً للمعارك القادمة مع قوات الاحتلال، وهذا الاستعداد ليس دفاعاً عن قطاع غزة فقط، بل دفاعاً عن فلسطين عامة.
وقد زاد انتصار المقاومة اللبنانية سياسياً على "إسرائيل" أو صمودها العسكري الأسطوري في تموز/يوليو 2006، من ثقة المقاومة الفلسطينية في غزة بأن الانتصار على المحتل الإسرائيلي ممكن وواقعي، بخلاف كل التصريحات المحبِطة الصادرة عن رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله.
هنا، لا بدَّ من أن نشير إلى حالة الانقسام المدمّر بين فتح وحماس منذ العام 2007 حتى اليوم، وتأثيره الذي يعكس نفسه على فاعلية المقاومة الشعبية وجماهيريتها في الضفة الغربية، وقدرتها على مواجهة المحتل الإسرائيلي، إضافة إلى ما ساهم به الوضع العربي المتساوق مع المحتل الاسرائيلي، والذي شجّع "إسرائيل" في عدوانها المتكرر على القطاع في العامين 2008 و2012، وفي العام 2014 أيضاً.
رغم ذلك، لم تنكسر إرادة الشعب الفلسطيني، ولم تستسلم المقاومة هناك لأي ضغوط عربية. وقد اعتمدت على استقلالية قرارها إلى حد كبير، كما اعتمدت على تنوع مصادر الدعم المادي لها، بحيث لا تكون رهينة لقوى يمكن أن تبيعها ضمن عملية مساومة مع المحتل الإسرائيلي أو إرضاءً للسيد الأميركي.
وقد تكون بوادر المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام هذه الأيام عاملاً مساعداً لاستنهاض الجماهير الفلسطينية للتصدي للاحتلال الإسرائيلي، ولكن ذلك يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين واستعادة ثقة الجماهير بالقيادة الفلسطينية، وهو أمر مشكوك فيه!
كانت المقاومة في القدس والضفة قد بدأت بعد الانتفاضة الثانية مع محاولات المستوطنين اقتحام باحة الحرم القدسي الشريف، لتحقيق هدف التقسيم المكاني والزماني لباحة الحرم، وتمهيداً لبناء هيكل يهودي مكان قبة الصخرة. هذه المقاومة ما تزال مستمرة، رغم تراجع طابعها الشعبي في الميدان، مع تراجع الدور الأردني التاريخي في توجيه دائرة الأوقاف، وتقدم الدور التركي الإردوغاني بموازاة الدور الأردني.
إنَّ الطابع المقدسي للمقاومة منذ عقدين من الزمن على الأقل، دمَّر الحلم الإسرائيلي إلى حد كبير، بتدجين سكان القدس الفلسطينيين، من خلال الهوية الزرقاء وما يتبعها من خدمات وإغراءات مادية، وهذا أكثر ما بحثته الدراسات التي تراقب المقاومة الفلسطينية بمراحلها المختلفة، إلى درجة أن أودي ديكل (جنرال احتياط ورئيس سابق لدائرة المفاوضات) قال: "الوضع الاستراتيجي للقدس يتطلَّب تغيرات سياسية".
إنَّ أكثر ما يميز المقاومة الفلسطينية الراهنة للاحتلال في الضفة الغربية والقدس هو ما يمكن تسميته "المقاومة الشعبية السلمية"، برعاية السلطة الفلسطينية، ووفق إيقاعها المعلن مسبقاً، في ظلّ غياب التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال مؤخراً، كما أعلنت السّلطة رسمياً، وغياب أيّ علاقة رسمية مع الولايات المتحدة.
في المقابل، هناك هجمة عربيّة خليجيّة للتطبيع الرسمي بين "إسرائيل" وعدد من الأنظمة العربيّة. أما المقاومة في قطاع غزة، فتتمثل في السنوات الأخيرة بإطلاق البالونات الحارقة على مستوطنات ما يُسمى "غلاف غزة"، وإطلاق صواريخ بين الحين والآخر رداً على الاعتداءات الإسرائيلية أو تذكيراً للعالم بضرورة التحرّك لرفع الحصار عن القطاع.
في المقابل، لا بدَّ من السؤال عن موقف السلطة الفلسطينية من هذه المقاومة بأشكالها المختلفة! لا يخفى على أحد أن السلطة الفلسطينية، متمثلة برئيسها محمود عباس، تعارض مبدئياً، وبشكل قاطع، المقاومة المسلّحة وأيّ شكل من أشكال العنف ضد الاحتلال، إن كان من قطاع غزة أو في الضفة والقدس، بل تقف ضد المقاومين ميدانياً، وتتفاخر بإحباط أجهزتها الأمنية لكل نشاط من هذا النوع، وتعتبر أنَّ الطريق الوحيد للوصول إلى إقامة الدولة الفلسطينيّة هو طريق المفاوضات السلمية، رغم عبثيّتها المثبتة منذ 29 سنة، وباعتراف السلطة نفسها بذلك.
رغم ذلك، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ السلطة ورئيسها يدعمون المسيرات السلمية إلى قرية بلعين وغيرها، ويبررون التصدي السلمي للمستوطنين عند اقتحامهم باحة الحرم القدسي، ولكنهم لا يدعون إليه، خشية اتهامهم "بالتحريض" ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومنعاً لتحول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى صراع ديني، كما يريده نتنياهو.
أمّا في ما يخصّ العمليات الفدائية بالسكين، فموقف السّلطة يتراوح بين التبرير باستحياء والعمل على إحباطها بالاعتقالات المسبقة أو التنسيق الأمني مع المحتلّ الاسرائيليّ. وقد كشف رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، اللواء ماجد فرج، في مقابلة لصحيفة "ديفنس نيوز" الأميركية، يوم 18 كانون الثاني/يناير 2016، عن أنَّ "الأجهزة الأمنية الفلسطينية أحبطت خلال شهرين أكثر من 200 عملية مقاومة" ضد الاحتلال الإسرائيلي.
بعد أيام قليلة، وفي ظلّ الانتقادات التي لاقاها هذا التصريح من قبل الفصائل الفلسطينيّة، بما في ذلك حركة فتح، قام الرئيس محمود عباس بتغطية ماجد فرج ودعمه، بالقول: "إن إحباط هذه العمليات جاء بأمر منه شخصياً"، الأمر الذي أدى إلى تراجع الهبة الشعبيّة التي بدأت في أيلول/سبتمبر 2015 واستمرت حتى بداية العام 2016، وهذا ما يفسّر انحسار الهبّة وعدم اتّساعها إلى أماكن عديدة في الضفة الغربية، وحصرها في القدس والخليل، من دون الاقتراب من الحواجز العسكرية.
إنَّ خشية المقاومين الفلسطينيين من المخابرات الفلسطينيَّة لا تقل عن خشيتهم من أجهزة المخابرات الإسرائيليّة، بل تزيد، حتى لو أعلنت السلطة وقف التنسيق الأمني مع المحتل الإسرائيلي. مثل هذا الموقف والسلوك من القيادة الفلسطينية لم نشهده في الانتفاضتين السابقتين، كما أننا لم نشهد حالة من فقدان الثقة بين الجماهير وقياداتها الرسمية في أي مرحلة نضالية سابقة، وهذا يشكل فارقاً جوهرياً بين الحالة النضالية في الوقت الحاضر وما كانت عليه عشية الانتفاضتين الأولى والثانية.
القوى المحركة للانتفاضة الأولى والثانية مقارنة بالمقاومة الراهنة
ترتبط القوى المحركة للمقاومة الراهنة بسماتها التي أُشرنا إليها أعلاه إلى حد كبير، مع القناعة الشعبية بأن ما يبدو ظاهراً مختلف عما يدور في الخفاء. من الصعب أن نشير اليوم إلى قيادات فصائلية تقود المقاومة، ومن الصعب الإشارة إلى التأييد الشعبي للمقاومة من خلال مشاركة جماهيرية واسعة، ما عدا تلك المشاركة خلال جنازات الشهداء.
ولكن في حقيقة الأمر، تشير استطلاعات الرأي العام الفلسطيني إلى أنَّ هذا الرأي العام منقسم بنسبة متساوية تقريباً، بين التأييد لانتفاضة مسلّحة وانتفاضة غير مسلحة. وللرأي العام الفلسطيني نماذج من الانتفاضة الأولى والثانية، ويعود هذا إلى أسباب عديدة، منها التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حصلت خلال العقدين الأخيرين في المجتمع الفلسطيني، وتبلور قوى اجتماعية اقتصادية ذات تأثير سياسي قوي، لا مصلحة لها في ضرب مكتسباتها التي حققتها خلال هذه الحقبة، الأمر الذي يوجب الحذر من تحوُّل الانتفاضة إلى مسار قد لا تحتضنه غالبية الشعب والقوى النافذة.
وإذا ما بحثنا عمَّن يحرّض الجماهير لمقاومة الاحتلال، لوجدنا أنَّها ليست بحاجة إلى قيادة أو نخبة ثورية تحرِّضها، بل يكفي قمع الاحتلال الذي يطال كل مدينة وقرية ومخيم وكل أسرة فلسطينية، والتحريض المستمرّ من قِبَل رئيس حكومة الاحتلال ووزرائه، ومطالبتهم بالمزيد من القمع والقتل، وسياسة القهر والحصار والإذلال على الحواجز، والاعتقالات الإداريّة وغير الإداريّة، وتعثّر عملية التفاوض العبثية منذ 29 سنة ونيفاً. كلّ هذا يكفي لتحريض الجماهير الشعبية ضد الاحتلال.
أما الوعي الفلسطيني الذاتي بضرورة مقاومة الاحتلال لتحقيق أهداف الشعب في إقامة الدولة المستقلة والعودة... كل هذه العوامل وغيرها تشكل القوة الدافعة للشعب الفلسطيني للخروج أفراداً وجماعات لمقاومة الاحتلال، بما يتوفر لديهم من أدوات، ومن دون قرار مسبق أو توجيه من أحد.
مرة أخرى، تعود الثورة الفلسطينية لتنطلق من رحم الشّعب لتُحرِّك النخبة أو القيادة، وليس العكس، كما هو حال الثورات التي نعرفها، بما في ذلك الثورة الفلسطينية عند انطلاقتها في العام 1965.
تلخيص
إذاً، إذا ما أردنا تحديد القوى المحركة للمقاومة الراهنة، مقارنة بالقوى التي حركت الانتفاضتين الأولى والثانية وقادتهما، يمكن القول إنهما انطلقتا من رحم معاناة الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة في العام 1967 بكل فصائلها وطبقاتها وشرائحها الاجتماعية، وأدى أبناء المخيمات دوراً مركزياً في إشعال الانتفاضة الأولى واستمراريتها، حتى تمت تسميتهم بـ"حطب الانتفاضة". وقد قامت القيادة الوطنية في الأرض المحتلة بتنظيم الانتفاضة الشعبية، وتلقَّفتها منظمة التحرير الفلسطينية، فاحتضنتها علناً، وإن حصل ذلك لاحقاً.
كذلك، تلقّت الانتفاضة الأولى منذ اللحظة الأولى دعماً من جماهير الشعب الفلسطيني في مناطق الـ48 وقيادته الوطنية، حتى قيل إن صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية كانت صحيفة الانتفاضة، وهي من أطلق عليها اسم "الانتفاضة الشعبية"، وأدخلها إلى القاموس السياسيّ بكلّ اللغات. 
إضافةً إلى ذلك، لاقت الانتفاضة الأولى تضامناً دولياً بفضل طابعها السلمي والتحرري، وبفضل العلاقات التي نسجتها المنظمات الأهلية الفلسطينية، ومنها وسائل الإعلام الفلسطينية، داخل الأرض المحتلة في العام 1967، مع قوى سلامية وتحررية في أوروبا، واستطاعت أيضاً أن تستميل تضامن قوى ديموقراطية وسلامية من المجتمع اليهودي داخل "إسرائيل". مثل هذا التطور يمكن أن يوصف بالحالة الثورية، وهي التي مكَّنت منظمة التحرير الفلسطينية من تحقيق إنجازات سياسية من خلال مؤتمر مدريد، وهي الإنجازات التي تمَّ تقزيمها لاحقاً من خلال مسار أوسلو في الغرف الخلفيَّة.
أما الانتفاضة الثانية، فقد كانت رداً شعبياً طبيعياً على اقتحام أرئيل شارون لباحة الحرم القدسي يوم 28 أيلول/سبتمبر 2000، بهدف فرض السيادة والسيطرة الإسرائيلية الكاملة عليه، في حين كانت المفاوضات تجري في كامب ديفيد في الولايات المتحدة بين الوفد الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات، والوفد الإسرائيلي برئاسة إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية؛ هذه المفاوضات التي انتهت إلى فشل ذريع، وردّ فعل فلسطيني على التعنّت الإسرائيلي، ورفض الحكومة الصهيونية الانصياع إلى القانون الدّولي والاتفاقيّات الموقّعة والمعترف بها دولياً، والتي تعني ضرورة الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو. اعتمد المفاوض الإسرائيليّ على المناورة والهروب من الاستحقاقات ومحاولات الضغط والابتزاز بواسطة ومساعدة الراعي الأميركي المنحاز كلياً إلى "إسرائيل". 
للمقارنة والتقييم، لا بدَّ من السؤال: هل استطعنا استخدام الأدوات التكنولوجية التي استحدثها العالم خلال العقدين الماضيين لمصلحة النضال ضد الاحتلال بما يكفي، أو أن هذه الأدوات بقيت من نصيب العدو، بما في ذلك ما امتلكناه بين أيادينا، مثل الإنترنت والخلوي وغيرهما؟ وهل أنتجنا لأنفسنا، وفق حاجاتنا، أدوات خاصة تساعدنا في تحقيق أهدافنا؟ وهل استطعنا استخدام التكنولوجيا الحديثة لحماية مناضلينا وتنظيماتنا، أو أن المحتل الإسرائيلي هو الذي استبدل العملاء الذين أدوا دور وسيلة الاتصال الأساسية مع المحتل في الانتفاضة الأولى، واستخدم أدوات تكنولوجية حديثة خلال الانتفاضة الثانية، وما يزال؟ إضافة إلى ذلك، علينا أن نراجع ما إذا كنا نستخدم وسائل الإعلام بالشكل والمضمون الذي يخدم هدفنا؟
كما يجب علينا أن نتساءل عما إذا كان نهجنا السياسي، التفاوضي والدبلوماسي، والسلوك الأمني والإداري للسلطة الفلسطينية، ساهم في تعزيز القوة النضالية للشعب الفلسطيني لمواجهة التحديات القادمة أم العكس! ومن يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه من تراجع وطني؟
المصدر: الميادين