2024-05-16 11:35 م

عندما يرحل الجسد وتبقى الذكرى الطيبة: رحيل عليا نسيبة وعبد الستار قاسم

2021-02-03
بقلم:  نادية عصام حرحش
تُعوّدنا الحياة في كل يوم معان جديدة لرحيل مستمر وحتميّ. وكأنها تحفر في التواريخ مكاناً لتخليد الذكرى. فهناك من البشر من استحقوا الخلود بذكراهم. 1.2.2021 سيسجل بالتاريخ كيوم فقدان حقيقي للشعب الفلسطيني كما نقول بينما نسير على أقدامنا نحو خطوات الحياة ان الحق والعدل والمساواة لا تعطى بل تؤخذ. الامر لأصحاب للذكرى الطيبة لمن تركنا ورحل مختلف، يعطى طواعية وبسخاء عظيم.
ترك فلسطين وعالمنا هذا بالأمس شخصيتين اصرّتا على التغيير واعلاء الحق كمن ينحت بالصخر بلا كلل او ملل. قد يكون فارق العمر والزمن لعب دورا ما، وقد يكون اختلاف المكان من مدينة الى مدينة يؤثر على ما نعرفه عن بعضنا الاخر كشعب. ولكن على ما يبدو ان هناك عدل ما بالاستحقاقات بالنهاية. ليس بالضرورة ان ندركها بالحياة، ولكنها بالتأكيد تأخذ استحقاقها عند قدوم اجلها.
هذا ما جرى برحيل الست عليا نسيبة، التي عرفتها القدس كمديرة مدرسة النظامية لعقود قبل ان تتقاعد (2005). ورحيل صاحب الرأي الذي لم يعرف المهادنة البروفسور عبد الستار قاسم.
ولدت الست عليا نسيبة في القدس سنة 1927، وتعلمت وعلّمت بمدرسة المأمونية، لتعيش نكبة ال 1948وتترحل وترجع وتجعل من التعليم طريق نضالها.
عرف أهل القدس من بنات وأبناء جيلي الست عليا نسيبة من خلال ادارتها لمدرسة النظامية. ولكن تاريخ الست عليا نسيبة بالمجال التربوي بدأ بالتأكيد قبل ادارتها لمدرسة النظامية، فكانت قبل احتلال القدس سنة 1967مديرة مدرسة المأمونية. وهي المدرسة التي تخرجت منها وعلمت بها حتى 1967، تخللتها سنوات عاشتها باللجوء والغربة. مدرسة المأمونية التي كانت تعتبر اهم مدارس القدس حينها، كانت ضمن ضحايا المؤسسات التي وضع الاحتلال يده عليها وطوّع منهاجها الى المنهاج الإسرائيلي.  ولكن ما قامت به الست عليه نسيبة بينما كانت تشغل منصب مديرة حينها كان بطوليا، شجاعا، قويا. بكل بساطة تركت المأمونية لرفضها الخضوع لأسرلة المدارس وانشأت مدرسة لا تخضع بمنهاجها للاحتلال الإسرائيلي. بالقدس تحديدا، كانت المدارس الخاصة هي السبيل الوحيد لتحدي الاحتلال، ولم تكن متاحة للجميع بسبب الأقساط العالية. وشقت مدرسة النظامية طريقها على مدار السنوات لتتحدى المدارس الخاصة وتلك التابعة للبلدية بإصرار كبير نحو هدف واحد يتمحور حول جدية التعليم ونوعيته واتاحته للطبقة التي لا تستطيع بالضرورة تحمل أقساط المدارس الخاصة العالية فتخرجت من النظامية على مدار العقود طالبات نافسن طالبات المدارس الخاصة وقدمن للمدينة صفوة نسائهن.
من الجهة الأخرى ومن مدينة نابلس رحل عبد الستار قاسم، صاحب القلم الحاد والرأي الذي لا يهادن. قد يكون بلا أدنى شك، أثر بطلابه على مدار عقود التعليم في جامعة النجاح. الا ان تأثيره بآلاف القراء من كل صوب صاحبه ديمومة الامل في ظل واقع يملأه الإحباط واليأس والانكسار. لم يتوقف عبد الستار القاسم عن رفع صوته بتحدي السلطة ومعارضتها منذ قيامها. لم تخيفه التهديدات المستمرة والتضييقات والاعتقالات، واستمر قلمه كوخزة ابرة تحقن الدماء في العروق المتجلطة.
ولد عبد الستار قاسم سنة 1948 في دير الغصون بمحافظة طولكرم. وحصل على البكالوريوس والماجستير بالعلوم السياسية
والدكتوراه في الفلسفة السياسية. عمل محاضرا بالجامعة الأردنية وجامعة بيرزيت وجامعة القدس، ومن ثم بجامعة النجاح. صدر له 25كتاب بالفلسفة السياسية والحرية والقضية الفلسطينية والاعتقال وغيرها. ومئات المقالات تصدرت في رأي اليوم على سبيل المثال لا الحصر.
عندما نفكر بتاريخ الست عليا نسيبة، وما قامت به من تحدي لسلطات احتلال لم يكن جبروتها اقل من جبروتها اليوم، ولكن بالتأكيد أكبر وأكثر قسوة، ولكنها وقفت بوجهه مع صفوة من المربيات في القدس وتحدين جبروت احتلال حقيقي واستطاعت ان تنجي بنات القدس من عملية اسرلة ممنهجة، نرى مع الأسف اليوم مأساويتها منذ رفعت السلطة الفلسطينية بمجيئها اليد عن القدس وأهلها وتركتها بين فكي الاحتلال والعوز.
تعرضت الست عليا للتهديد، وشاركت بإضرابات المعلمين التي استمرت لثلاث سنوات مناهضة ورافضة المناهج الإسرائيلية حتى تم تأسيس الجمعية التي احتضنت مدرسة الفتاة اللاجئة وتبعتها المدرسة النظامية (1970) لاستقبال الطالبات القادمات من المدارس التي تعلم المنهاج الإسرائيلي. فتكفلت الست عليا بمصاريف ونفقات وحملت على كتفها حمل وزارة تربية وتعليم، ووزارة شؤون اجتماعية وأكثر. ولكنها عاشت في زمن كانت البطولة فيه أفعال لا شعارات.
الست عليا نسيبة عاشت لتزرع الإنجازات وتحصدها بنات المدينة.
وعبد الستار قاسم، كتب وعبر بقوة عما يعترينا من مشاعر لا يقوى او يجرؤ معظمنا على التعبير عنها. تحمّل الاعتقال من قبل الاحتلال مرات عديدة، وتمت مداهمة منزله مرات. تعرض لمحاولات اغتيال وحرق متكرر لسيارته وإطلاق نار واعتقالات من قبل أجهزة السلطة الفلسطينية، واوقف عن العمل، ولم يتوقف قلمه مرة عن شق كلماته في رقابهم. قد يكون زرع عبد الستار قاسم لبذور الجرأة ومقاومة الاحتلال والسلطة الفلسطينية، زرع لا نزال نأمل نموه. فالارض لم تعد صالحة للزراعة وسط فساد وخراب ومصادرة وانتهاك.
عندما نتابع كم الرثاء والنعي لكل من الست عليا نسيبة والبروفسور عبد الستار قاسم منذ اعلان خبر وفاتهما…. لا يمكن الا ان نتأكد ان الحق دائما اقوى حتى ولو رحل من رفع رايته.
هؤلاء هم الباقون الخالدون بأعمالهم وذكراهم….
هؤلاء نذرف بفقدانهم دموع الألم والحزن ونشعر برحيلهم الخسارة ونخاف ان نُترك أكثر في فراغ المجهول الذي نحياه هنا.
الرحمة لروح الخالدين بذكراهم
كاتبة فلسطينية