2024-05-14 04:45 م

رفح.. تاريخ مدينة وحّدتها الحرب وقسّمها السلام

تقف مدينة رفح شامخة في أقصى زاوية غرب فلسطين، عند عناق أمواج البحر مع الرمال الذهبية، بسيرتها التاريخية المعبَّقة برائحة الحضارات القديمة، بداية من الحضارة المصرية القديمة ومرورًا بالحضارة الآشورية والكنعانية واليونانية وانتهاءً بالحضارة الإسلامية.

اليوم أصبحت هذه المدينة، الملجأ الأخير والآمن كما يُفترض للنازحين الفلسطينيين من جميع أنحاء قطاع غزة خلال حرب الإبادة الإسرائيلية، هدفًا رئيسيًّا للعمليات العسكرية الإسرائيلية، بعد إعلان الاحتلال التجهز لهجوم برّي وشيك، سيكون له وفق تحذيرات المسؤولين الدوليين والأممين آثار كارثية، فكيف عادت المدينة القديمة إلى دائرة الحرب؟

قلعة الجنوب وبوابة الشام
رفح مدينة ساحلية من المدن التاريخية القديمة، تبلغ مساحتها 55 كيلومترًا مربعًا، تقع أقصى جنوب السهل الساحلي الفلسطيني وجنوب قطاع غزة على الحدود المصرية بمحاذاة شبه جزيرة سيناء، وتشكّل حلقة الوصل البري بين قارتَي آسيا وأفريقيا.

أكثر ما يميز مدينة رفح هو موقعها الاستراتيجي، إذ كانت قديمًا البوابة الفاصلة بين مصر والشام، وامتدت إليها أهم خطوط السكك الحديدية في المنطقة لتربطها بالمدن الفلسطينية والعربية، ومن بينها الخط الممتد بين العاصمة المصرية القاهرة وحيفا، المدينة الكنعانية القديمة المقامة على جبل الكرمل، والتي جعلها موقعها الاستراتيجي أول ميناء بحري في فلسطين، وبوابة للعراق وسوريا والأردن عبر البحر المتوسط.

وكما هو الحال بالنسبة إلى المدن الفلسطينية، يعود تاريخ مدينة رفح إلى 5 آلاف عام تقريبًا، وعُرفت عبر تاريخها بعدة أسماء، فقد سمّاها المصريون القدماء “روبيهوي”، وعُرفت في زمن الآشوريين بـ”رفيحو”، وسمّاها الرومانيون واليونانيون “رافيا”، حتى سمّاها العرب باسمها الحالي “رفح”.

يُقال إن هذه المدينة الضاربة في القدم تأسّست في زمن الكنعانيين على تل مرتفع، وذلك لغرض عسكري هو حماية السهول الممتدة أمامها، وسهولة اكتشاف الأعداء قبل وصولهم، ويُعرف هذا التل اليوم باسم “تل زعرب”، ويعتبر معلمًا جماليًّا وسياحيًّا يقصده المستجمّون في المناسبات الشعبية.

أثناء فترة احتلال رفح، أسهم الاحتلال الإسرائيلي في تخريب التل بشكل ممنهج عبر أمرَين، الأول سرقة القطع الأثرية منها ونقلها إلى متاحفه، والثاني غضّ الطرف عن عمليات ينفذها الأشخاص للبحث عن آثار بعرض بيعها، كما استغل الاحتلال ارتفاع التل وسط منطقة منخفضة، وأقام فوقه موقعًا عسكريًّا أرسل منه الموت والدمار وحوّله إلى نقمة على سكان رفح.

وبخلاف الخدعة الاستشراقية التي تعمد إلى استخدم مصطلح “الكنعانيين” الذي تلازم مع ظهور نظرية “الشعوب السامية”، في تصنيف الفلسطينيين والشعوب القديمة في المنطقة، يعود معظم سكان رفح في أصولهم إلى مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، وبدو صحراء النقب وصحراء سيناء المجاورة للمدينة، وفي وقت لاحق أُضيف إليهم اللاجئون الذين ترجع أصولهم إلى مختلف قرى ومدن فلسطين المحتلة، والذين قدموا بعد النكبة الفلسطينية في عام 1948.

بعد 3 سنوات من النكبة، تأسّس لمدينة رفح أول مجلس قروي، ثم أصبح هناك مجلس بلدي عام 1974، وحمل على عاتقه إيجاد مخطط هيكلي للمدينة.

وعلى مرّ العصور القديمة، شكّلت رفح منطقة ارتطام عسكري وثوري، وخضعت عبر تاريخها -الذي يتجاوز عمر دولة الاحتلال بقرون- لعدة قوى خارجية، فقد تعرّضت لغزو القوى المتعاقبة من الفراعنة إلى الآشوريين ثم الإغريق والرومان.

ووفقًا لـ”وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)”، مرَّت المدينة بأحداث تاريخية هامة، ففي القرن الثامن قبل الميلاد وقعت معركة بين الآشوريين والفراعنة الذين تحالفوا مع ملك غزة، وانتهت بانتصار الآشوريين، وفي عام 217 قبل الميلاد شهدت المدينة معركة بين حكّام مصر (البطالمة) وحكّام الشام (السلوقيون)، خضعت بعدها رفح وسوريا لحكم البطالمة لمدة 17 عامًا إلى أن استرجعها السلوقيون.

في العهد المسيحي، اعتبرت رفح مركزًا لأساقفة الكنيسة إلى أن فتحها المسلمون العرب على يد عمرو بن العاص، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب عام 637 ميلادية، كما شهدت رفح مرور نابليون بها في حملته الفرنسية على بلاد الشام عام 1799، وزارها كل من الخديوي إسماعيل والخديوي عباس حلمي الثاني الذي رسم الحدود بين سوريا ومصر، بوضع عمودَي غرانيت تحت شجرة السدرة القديمة في قطاع غزة، وهي معلم أثري مشهور يزيد عمرها عن 200 عام.

في التاريخ الحديث، وتحديدًا في عام 1917، وبعد خروج بريطانيا منتصرة من الحرب العالمية الأولى، خضعت المدينة لسيطرة الانتداب البريطاني قبل أن يدخلها الجيش المصري، وتصبح المدينة تحت سيطرة مصر بعد حرب عام 1948، وكان للمدينة دورها في صدّ العدوان الإسرائيلي أثناء الحرب، لوقوعها على خط النار في أي مواجهة بين مصر و”إسرائيل”.

ووقعت رفح تحت السيطرة الإسرائيلية مرتَين، أولها خلال حرب عام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر)، عندما احتلت “إسرائيل” قطاع غزة بما فيه مدينة رفح، ودمّرت أهم خطّ للسكك الحديدية الواصل بين القاهرة وحيفا.

حاولت المدينة حينها التصدي للاحتلال الذي عزم على الانتقام من صمود أبنائها، فبعد احتلالها في ذلك العام لم تعرف رصاصاته استثناءات أخلاقية، فطالت الطفل والمسن لتوقع فيها مجزرة المدرسة الأميرية، التي راح ضحيتها مئات الشهداء الفلسطينيين.

عادت رفح مجددًا في عام 1957 إلى الولاية المصرية بعد انسحاب الاحتلال منها حتى عام 1967، عندما سطّرت سجلًّا جديدًا من سجلّات التضحية والفداء، ورغم ذلك وقعت تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي للمرة الثانية، ونالت خلال ذلك ما نالت من الظلم والتنكيل على يد الاحتلال الغاشم.

أبرز هذه الانتهاكات شهدتها عام 2014، عندما استشهد 140 فلسطينيًّا في قصف إسرائيلي على رفح بأكثر من 700 قذيفة صاروخية ومدفعية، خلال 5 ساعات في يوم “الجمعة السوداء” كما يسمّيها أهالي مدينة رفح، بعد اختراق “إسرائيل” الهدنة الإنسانية المتفق عليها مع حماس، والتي أدت إلى أسر المقاومة الفلسطينية للملازم الإسرائيلي هادار غولدين، واقتياده إلى أحد الأنفاق.

وعلى مدار حروب متلاحقة بثت حميم لهيبها في أزقة وأحياء مدينة رفح الصامدة، دون أن تنال من عزيمة الحياة في نفوس أبنائها، ولم تعرف قذائف الحقد المنطلقة تجاه قلعة الجنوب استثناءات أخلاقية، فطالت البشر والحجر والشجر، لتكتب فصلًا جديدًا من حكايات التضحية والفداء التي خاضتها بوابة الجنوب.

المدينة المقسومة
فرض الاستعمار البريطاني في مصر عام 1906، اتفاقًا لترسيم الحدود مع الشام الذي كان يخضع للدولة العثمانية آنذاك، فشقَّ خط حدودي بين مصر وفلسطين قسّم رفح إلى رفحَين، ووصفه الاتفاق بـ”الخط الإداري”، لكنه أصبح مع الوقت حدًّا سياسيًّا لتبقى المدينة ضحية له بعد أن شطرها إلى نصفَين.

عندما تأسّست “إسرائيل” عام 1948، كانت غزة تحت السيطرة المصرية، لكن رفح ظلت مقسّمة، وبعد الاستيلاء على سيناء وغزة في أعقاب حرب 1967، تم توحيد رفح وإزالة الحدود القديمة، وسُمح ببناء المستوطنات، وأصبح فلسطينيو رفح محاطين بالمستوطنين الذين وضعوا أيديهم على الأراضي الزراعية الواسعة، وحصلوا على الحصة الأكبر من المياه الجوفية الخاضعة لشروط الاحتلال.

لكن الظلم الأكبر الذي وقع بحقّ رفح كان جراء اتفاقية كامب ديفيد عام 1982، وانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من سيناء، حيث تم تقسيم المدينة مرة أخرى بسياج من الأسلاك الحدودية الشائكة إلى شطرَين: مدينة رفح الفلسطينية، ويحكمها الاحتلال، وتمثل الجزء الأكبر من المدينة (3 أضعاف)؛ ومدينة رفح المصرية على حدود شبه جزيرة سيناء، وتتبع لمصر، وبين الجانبَين عائلات وأقارب وصلات وثيقة وثقافات متشابهة.

أحدث ترسيم الحدود في رفح مآسي كبيرة، إذ انفصلت العديد من العائلات على طرفَي الحدود، وانقسمت العائلة الواحدة إلى قسمَين، بل إن بعض المنازل تم شقّها من المنتصف ليكون أحدها في فلسطين والآخر في مصر.

لقاء الأهالي عبر الأسلاك الشائكة لم يستمر طويلًا، حيث فرض الاحتلال الإسرائيلي منطقة عازلة بمساحة تزيد عن 400 متر على طول السلك الشائك، عبر سياسة هدم المنازل الملاصقة للحدود، وفي الجانب المصري أيضًا هُدمت المنازل حتى 350 مترًا.

تعقّد الأمر خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (28 سبتمبر/ أيلول 2000 – 8 فبراير/ شباط 2005)، ببناء الاحتلال الإسرائيلي جدرًا فولاذيًّا فرض مزيدًا من البُعد بين أهالي الرفحَين.

منذ أن وُضع السلك الشائك عام 1982، لم يتمكن الرفحاويون من اجتيازه إلا مرتَين: كانت المرة الأولى في 12 سبتمبر/ أيلول 2005، بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وإخلاء منطقة الحدود، فالتأمت العائلات الرفحاوية بعد 23 عامًا من الانفصال لأيام فقط قبل أن يُعاد إغلاق الحدود.

وكانت المرة الثانية في 27 يناير/ كانون الثاني 2008، عندم اعتصم المئات أمام المعبر لإجبار السلطات المصرية على فتحه، في تلك الليلة فُجِّر جزء من الجدار الفاصل ليبدأ توافد الفلسطينيين إلى مدينة العريش المصرية، حيث تمكّن الذين تجاوزوا الجدار الحصول على البضائع والأدوية والوقود.


لم يستمر فتح الحدود طويلًا، إذ سرعان ما أغلقته السلطات المصرية بعد أسبوع، وبنت جدارًا أسمنتيًّا محاذيًا للجدار الأول، وعادت رفح إلى واقع الانقسام بين العائلات من جديد، فلجأ الرفحاويون إلى حيلة قديمة جديدة للتواصل والحفاظ على أواصر القرابة وروابط الدم بينهم وبين المصريين، عبر أنفاق تخترق الحدود تحت الأرض.

مع مرور الوقت، بدأت الأنفاق في التطور والتزايد، وزاد معها إدخال البضائع والتجارة وحتى الأسلحة، التي كانت تعتمد عليها الفصائل الفلسطينية في تطوير أساليب مقاومتها للاحتلال، وراح ضحية هذه الأنفاق في رفح الفلسطينية 205 شبّان فلسطينيين طبقًا لمصادر حقوقية فلسطينية، فيما لم تتوفر إحصائيات رسمية مصرية عن ضحايا الأنفاق في رفح المصرية.

لكن كل هذا تغير إلى الأسوأ بعد الإعلان عن “العملية سيناء 2018″، التي أنشأ خلالها الجيش المصري منطقة عازلة على الحدود مع قطاع غزة، وأزال مدينة رفح المصرية بالكامل وهدم الأنفاق التي تربط بين الرفحَين، ووصلت أصداء قصف الجيش المصري إلى الجهة الثانية من المدينة الفلسطينية.

رئة غزة
تتكون المدينة اليوم من 12 حيًّا وتجمعًا سكنيًا أبرزها حي المواصي، الذي يعد السلة الغذائية لقطاع غزة، ويشتهر بجودة فاكهة الجوافة، وسُمّى بهذا نسبة إلى “الماصية”، وهي حُفر تُحفر على مستوى قريب من سطح الأرض لاستخراج المياه الجوفية، التي كانت قريبة من سطح الأرض في هذه المنطقة.

اشتهرت هذه المنطقة الساحلية بأراضيها الخصبة ومياهها الجوفية العذبة وزراعتها المزدهرة، لكنها سرعان ما تحولت بفعل سياسات الاحتلال إلى أراضٍ قاحلة، ومؤخرًا أصبحت بؤرة للنزوح من كل أنحاء قطاع غزة بعد أن كانت تتميز بمحدودية المناطق السكنية فيها، والتي بالكاد تتّسع للقاطنين الأصليين، فضلًا عن افتقارها للبُنى التحتية وشبكات الصرف الصحي وخطوط الكهرباء والشوارع الممهّدة وشبكات الاتصالات والإنترنت.

يتنوع النشاط الاقتصادي في مدينة رفح رغم بساطته، ويقوم اقتصادها على 3 قطاعات، وهي: النشاط التجاري الذي نما نتيجة لموقعها الجغرافي الحدودي بين مصر وفلسطين، والنشاط الزراعي الذي بدأ في التحسُّن بعد فترة الستينيات، وشهد استصلاح أراضٍ قريبة على شاطئ البحر، وصيد الأسماك الذي يمثل أساس الحياة لمئات العائلات.

ولرفح أهمية تتجاوز الحدود المحلية، كونها بوابة العبور بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، بالإضافة إلى احتوائها على المطار الوحيد في قطاع غزة، الذي عمل منذ عام 1998 ولمدة 3 سنوات فقط، وتوقف بعد أن دمره الاحتلال الإسرائيلي بالكامل خلال انتفاضة الأقصى (2002)، وما زال يسعى خرابًا فيه.

يُضاف إلى رصيدها الاستراتيجي 3 معابر رئيسية، وهي معبر العودة (صوفا) التجاري، ويقع شرق مدينة رفح، وتسيطر عليه “إسرائيل” بالكامل، ويخضع في كثير من الأحيان لعمليات إغلاق وفق مزاج الأمن الإسرائيلي، ناهيك عن عمليات التفتيش المعقّدة التي تتطلب إفراغ الشحنات وتفتيشها لساعات طويلة قبل الإفراج عنها.

وفيها أيضًا معبر كرم أبو سالم الذي أصبح المنفذ التجاري الوحيد لقطاع غزة بعد إغلاق معبر المنطار (شمالي القطاع)، ويقع على بُعد حوالي 4 كيلومترات إلى الغرب من رفح، عند نقطة التقاء الحدود بين القطاع ومصر والاحتلال، وبدأ تشغيله لأول مرة عام 2005 لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر، ومع ذلك لا يخلو المعبر من مضايقات الاحتلال.

كغيره من المعابر الحدودية، يتعرض المعبر في كثير من الأحيان للإغلاق المتكرر، ويتم تقييد العمل فيه بساعات محددة، ويفرض الاحتلال شروطًا قاسية لعرقلة عمليات الاستيراد والتصدير، ويُخضع الفلسطينيين لإجراءات معقّدة وعمليات إذلال وإهانة وابتزاز، ويستخدمه في بعض الأحيان كورقة ضغط على حركة حماس.

رغم وجود 7 معابر في القطاع، يمثل معبر رفح الحدودي البري مع مصر شريان الحياة، ومتنفّس أهالي غزة نحو العالم الخارجي، ومنفذ السفر الوحيد للغزاويين في ظل الحصار المفروض على القطاع، وهو أيضًا البوابة الوحيدة الخارجة عن سيطرة الاحتلال، وتمرُّ من خلاله بضائع التصدير الفلسطينية.

قضت هزيمة يوليو/ تموز 1967 واحتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الوطيدة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية، وبرزت منذ ذلك الحين أهمية المرور بين الجانبَين بكل أبعادها الهامة وانعكاساتها على الأصعدة المختلفة، خاصة الإنسانية في إطار السيطرة الإسرائيلية.

وأُنشئ المعبر البرّي بشكله الحالي بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (اتفاقية كامب ديفيد) المبرمة عام 1979، ويبعد عن القاهرة 370 كيلومترًا، وظلت السلطات الإسرائيلية تتحكم في عبور الفلسطينيين وفق استراتيجياتها، وظلت السلطات المصرية تتحكم في دخول حتى وإن كانوا يحملون وثائق سفر مصرية.

واستلمت السلطة الفلسطينية مع بداية عام 1995 جانبًا من إدارة المعبر، لكن السيطرة الأمنية والإشراف على المعبر كان من قبل الإسرائيليين من جهة، ومصر من الجهة الأخرى.

في سبتمبر/ أيلول عام 2005، انسحبت “إسرائيل” من قطاع غزة، وبعد ذلك بشهرَين وقّعت السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” اتفاقًا عُرف باسم “اتفاق المعابر”، أبقى السيطرة الأمنية الإسرائيلية على معبر رفح من خلال المراقبة عن بُعد بكاميرات مراقبة مرتبطة بمعبر كرم أبو سالم الإسرائيلي، وبإشراف مراقبين من الاتحاد الأوروبي.

لكن ظلت المعاناة مستمرة باستمرار تقييد التنقل من قبل أصحاب القرار، وهُم الاحتلال الإسرائيلي الموجود بمعبر كرم أبو سالم والسلطات المصرية التي تدير الجانب المصري، وفرضت “إسرائيل” شروطًا على حركة المرور تشمل إبلاغها بأسماء العابرين قبل 48 ساعة.

بعد سيطرة حماس على كامل قطاع غزة، بما فيه معبر رفح، انسحب الأوروبيون، وأُغلق المعبر أول مرة إغلاقًا كاملًا، ورفضت “إسرائيل” العودة إلى “اتفاقية المعابر” لتسليمه للسلطة، وأصبحت السلطات المصرية تفتحه لأيام معدودة ولحالات خاصة، تتم بعد تنسيق مضنٍ بين سلطات الحكومة المقالة في غزة والأجهزة الأمنية المصرية.

ولمّا ضاق الحال واستفحل، اقتحم آلاف الفلسطينيين المعبر في يناير/ كانون الثاني 2008، ودخلوا مصر للتزود بالمواد الغذائية والضرورية بعد نفاذها من القطاع في غمرة الحصار المفروض هناك، حينها صرّح الرئيس المخلوع حسني مبارك بأنه أمرَ القوات المصرية بالسماح للفلسطينيين بالعبور لشراء حاجاتهم الأساسية والعودة إلى غزة، طالما أنهم لا يشكّلون أي خطر أمني.

استبشر كثيرون خيرًا بقيام ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، بقيام عهد جديد تُجرى فيه إصلاحات شاملة تطال من بينها إشكالية معبر رفح بأهميتها الاستراتيجية وأبعادها الإنسانية على الفلسطينيين، والتي لم تهتم بها السلطات التي أطاحت بها الثورة.

طوال 4 سنوات ظل المعبر مغلقًا إلا في حالات استثنائية، حتى بدأ الرئيس المعزول محمد مرسي بالفعل إجراءات تكفل انسياب الحركة في المعبر تدريجيًّا، لكن استراتيجية حكومة مرسي لم تكتمل أبدًا، وسرعان ما عادت أمور المعبر والتحكم المذل فيه من الجانب المصري إلى الحال القديم، بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 الذي جاء بالنظام الحالي بكل سياساته وإجراءاته المتعلقة بالمعبر وغيره دون الاكتراث لانعكاساتها.

بعد تسلُّم السلطة الفلسطينية إدارة المعبر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، بعد مصالحة فلسطينية رعتها مصر وتنصّ على فتحه، لم يطرأ تغيُّر على عبور الفلسطينيين، وأُعيد فتحه خلال العدوان على غزة في مايو/ أيار 2021، لكنه أُغلق بعد شهرَين وحتى اليوم في كلا الاتجاهَين، دون توضيح الأسباب من السلطات المصرية.

بخلاف هذه الشرايين الإنسانية التي أغلقها الاحتلال، حرمت سلطات الاحتلال المدينة من التنمية والخدمات الأساسية والصحية على مدار ما يقرب من 4 عقود، ومنعت السكان من الحصول على حقوقهم المشروعة، وأضعفت النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي.

رفح في انتظار المجهول
يعكس معبر رفح نموذجًا لمدينة بنسختَين متشابهتَين، يفصلهما المعبر ذاته الذي تحاول المنظمات الإنسانية منذ بداية عملية “طوفان الأقصى” إدخال المساعدات عبره، لكن المدينة برمّتها أصبحت حاليًّا في عين الحرب، في ظل نقص حادٍّ لأدنى مقومات الحياة، وانهيار تامّ للقطاع الصحي.

في هذه البقعة الصغيرة يوجد أكثر من نصف سكان غزة، فوفق تقديرات الأمم المتحدة، تأوي رفح أكثر من نصف سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، استقبلت منهم المدينة ما يقرب من مليون ونصف نازح من كل مناطق القطاع، أي أكثر من 5 أضعاف عدد سكان رفح السابق البالغ عددهم 260 ألف شخص عام 2021، وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

يعيش هؤلاء اليوم، بالإضافة إلى النازحين الجدد الباحثين عن طوق نجاة من الحرب على غزة، في ظروف بالغة القسوة، في خيم متواضعة ومراكز إيواء مكتظة كالمدارس والشوارع، أو حتى في مخيمات مؤقتة منتشرة بشكل عشوائي في أي رقعة أرض فارغة، تحت قطع من البلاستيك لا تحميهم من برد الشتاء القاسي، محاطين من كل اتجاه إمّا بالسياج الحدودية المصرية والإسرائيلية وإمّا بالبحر الأبيض المتوسط.

كانت الحرب الإسرائيلية تدفع يومًا بعد يوم وعلى مراحل أمواج النازحين من سكان شمال القطاع ووسطه وحتى من جنوبه للاستقرار في المدينة، على اعتبار أنها “الملاذ الآمن”، لكنها بالطبع أكذوبة إسرائيلية متكررة يؤكّدها قصف المنطقة باستمرار بغارات جوية، وصلت منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حتى 9 فبراير/ شباط الجاري إلى 290 غارة جوية، وفق مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثها (ACLED).

تبقى في هذه المنطقة 3 مستشفيات فقط، وهي مثل كل المرافق الطبية في القطاع، تعاني جميعها من نقص أو انعدام الإمكانات البشرية والمستلزمات الطبية وانقطاع الكهرباء، فضلًا عمّا شهدته من استهداف، وتزيد التهديدات الإسرائيلية بالتوغل البري الوضع كارثية، وتتزايد المخاوف من تفاقم الأزمة.

تتصاعد التحذيرات الدولية منذ إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أنه أمر جيش الاحتلال بالتجهيز لهجوم قريب على المدينة المكتظة بالسكان والنازحين، في ظل استمرار زحف أعداد كبيرة منهم نحو المدينة، وهذا يعني ببساطة المزيد من المجازر جراء عشوائية القصف الإسرائيلي، واستمرار إغلاق معبر رفح، وهو المصدر الوحيد لدخول المساعدات الإنسانية التي لا تلبّي سوى جزء بسيط من احتياجات سكان القطاع.

لكن المخاوف المصرية تتركز حول مخططات قديمة جديدة حاولت “إسرائيل” تعزيزها، تهدف إلى عمليات تهجير قسري ودفع النازحين نحو الحدود المصرية، بهدف توطينهم في سيناء.

البعض قال إنها محاولة لعمل قطاعَيّ غزة، واحد فلسطيني وآخر في مصر، وهو مخطط لطالما تظاهرت القاهرة برفضه، ويحذّر رئيسها عبد الفتاح السيسي مرارًا منه، ويكرر قوله إنه لن يسمح بحدوثه إطلاقًا، فيما تحدثت مصادر أمنية عن تعزيز القوات المصرية على الحدود خوفًا من تحقيق هذا السيناريو.

أمام تصاعد التهديدات الإسرائيلية المتزايدة من ناحية، والتعنُّت المصري والحديث عن تواطؤ مع “إسرائيل” قبل غزو وشيك للمدينة في جنوب القطاع من ناحية أخرى، أصبح النزوح العكسي نحو وسط وشمال القطاع المحاصر مهمة مستحيلة، خصوصًا أن هذه المناطق ما زالت تشهد أعمالًا عسكرية، وصارت مناطق غير مؤهّلة لاستقبال أهلها النازحين، بعد تسوية مساحات كبيرة منها بالأرض أو تحولها إلى ركام.

ومع تضاعف الأهوال والمآسي كل يوم، واستمرار الإبادة والنزوح القسري المتكرر على مدار ما يقرب من 4 أشهر حتى الآن، ما زالت قلعة الجنوب تشمخ، رغم ما يطالها من ضربات قاتلة وحصار جائر، وتصرّ رغم الأسى على ألا ينال شيء من عزيمة الصمود والمقاومة في نفوس أبنائها، وما زال أبناء المدينة والنازحين إليها يسألون المجتمع الدولي السؤال نفسه: إلى أين سنذهب بعد ذلك؟

المصدر: نون بوست