2024-04-26 07:31 ص

«الهيكلة» السياسية

2015-07-24
بقلم: منير الخطيب
يعيد محمد حسنين هيكل الألق للكلمة، المكتوبة والمسموعة والمرئية. صاحب السرديات الطويلة عايش التاريخ العربي الحديث من داخل المطبخ. اقترب من صناع القرار، ذاب فيهم وذابوا فيه. وبقيت الكلمة المكتوبة مجده الأول والأخير. لم يذهب الى التقاعد. مع أفول الصحافة المكتوبة، أطل «الأستاذ» على الجمهور ببرنامج على فضائية «الجزيرة» عندما كانت المحطة القطرية تلعب منفردة بالفضاء الإعلامي العربي وتتلاعب به!
كانت مغامرة. فالاستاذ ليس نجماً تلفزيونياً، ويطيل في الكلام، ويذكر تفاصيل التفاصيل، يضعها في سياق متين. لا التلفزيون يحتمل عمقاً كهذا، ولا المشاهد المستهلك السريع لديه القدرة أو الجلد على متابعته. المفاجأة كانت ان برنامج هيكل حقق نجاحاً منقطعاً بين مختلف شرائح المشاهدين العمرية، واستمر فترة طويلة على الهواء، برغم خلوه من أي إبهار بصري، أو إخراج فني خاص. مجرد مكتب عريض يتحدث هيكل من خلفه، في مخالفة لكل قواعد الانتاج التلفزيوني الناجح.
نجاح هيكل لم يكن في فلشه لمذكراته، ولا في كشفه أسرار القادة الذين عايشهم، أو خبايا الأحداث التي واكب تفاصليها. نجاحه جاء ببساطة بسرده البديهيات التي يعرفها العقل العربي، والذي لا يعرف كيف يعبر عنها، أو أن يضعها في سياق واحد.
في مقابلته مع «السفير» قبل يومين، لم يأت هيكل بأي جديد، ذكّر بالبديهيات في السياسة والعلاقات بين الدول وموازين القوى. وحققت مقابلته انتشاراً واسعاً في الفضاء الالكتروني، لا يحققه عادة الكتاب السياسيون. نجومية تجاوزت نجومية فناني الصف الأول وزعماء الطوائف.
هيكل يقول ببساطة إن أميركا لم تتغير، بل صمود إيران ووحدة رأيها هي التي فرضت متغيرات، تبنتها الادارة الاميركية، والامر ذاته ينطبق على كوبا. هذه حقيقة بسيطة واضحة ومباشرة. بعكس التشرذم العربي وضياع رأيه. ويتابع الاستاذ: «مشكلتنا في العالم العربي أنك لا تجد بين المسؤولين من لديهم الإرادة لصنع تاريخهم. المنطقة الأغنى هي الخليج، والمنطقة الأهم وهي مصر والشام عندها مشاكل كثيرة، أما المغرب العربي فهو غارق في مشاكله و(زهقان) من المشرق العربي... فأين يبقى الأمل؟ هناك فكرة انهارت وهناك قوى إقليمية ظهرت، لم تظهر لدينا قوة بديلة أو فكرة بديلة». حقيقة أخرى بسيطة مفهومة ومكثفة ولا تقبل جدلاً.
التذكير بالبديهيات حاجة. ففي حال الفوضى والتقهقر التي نعيشها، يجب إزاحة الغبار عن البوصلة والنظر الى القضية الاساس. لفت نظرنا هيكل لا الى أحقية القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال فحسب، بل الى اهمية حركات المقاومة في تعطيل الهيمنة الاسرائيلية المطلقة في ظل التراجع العربي الكامل. لم يتساءل لماذا تدعم ايران المقاومة أكانت في لبنان ام في فلسطين، يكفيه ان هذه الحركة المحدودة الحجم بمقاييس الموازين العسكرية الكبرى تعيق تحقيق أكبر قوة في الشرق الوسط سيطرتها الكاملة وتمددها.
هنا نحن أمام السهل الممتنع في القول والتفكير. «الهيكلة السياسية»: معناها أن تمتلك مخزوناً من التجارب والقراءات، فتحللها ضمن قالب من الثوابت الوطنية، بتجرد وموضوعية، وتضعها في سياقها الجيوسياسي والتاريخي بلا إسقاطات استعمارية، مع تسمية الأشياء بأسمائها من دون مواربة، وتقديمها بلغة سهلة مبسطة مفهومة لا تترك مجالا للغموض، فيكون لديك نص سياسي فكري واضح، تأسف كيف غاب عنك، وهو بقربك دائماً.


عن "السفير" اللبنانية

الملفات