2024-05-05 05:57 م

اختبار غزة.. خزي الأنظمة وارتباك الشعوب

بقلم: صابر طنطاوي
دخلت حرب غزة مئويتها الثالثة وسط معارك لا تقل ضراوة عما كانت عليه في الأيام الأولى لجريمة الإبادة المتواصلة التي خلفت 34 ألفًا و183شهيدًا و77 ألفًا و143 إصابة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بحسب وزارة الصحة في غزة، فضلًا عن تدمير أكثر من ثلثي القطاع ونزوح ما يزيد على مليون ونصف إنسان، وهي الضريبة الأغلى في تاريخ المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

أكثر من 200 يوم مرت على الحرب التي قدمت فيها المقاومة – رغم الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون – ملحمة بطولية لم يشهدها تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي منذ أكثر من 75 عامًا، حيث أودت بحياة 605 جنود وضباط إسرائيليين، بعضهم من كبار القادة، وأصابت أكثر من 5 آلاف آخرين، وأحدثت خللًا نفسيًا في صفوف الجيش الإسرائيلي، إذ يُراجع العيادات النفسية كل يوم ما متوسطه 60 مجندًا، هذا بخلاف الفشل في تحرير الأسرى بقبضة المقاومة، إذ لم يتمكن الاحتلال على مدار أكثر من 6 أشهر من استعادة سوى 120 أسيرًا عبر صفقة تبادل مع المقاومة ضمن هدنة إنسانية استمرت أسبوعًا، فيما يتبقى بحوزة حماس قرابة 140 آخرين.

ومع تواصل الحرب الأطول بين الفلسطينيين والإسرائيليين والأكثر تأثيرًا وتفاعلًا من جانب اللاعبين المؤثرين، لا سيما حلفاء دولة الاحتلال الذين لم يتوانوا عن دعم حليفهم منذ اليوم الأول، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، نحاول في هذا التقرير تقديم كشف حساب للموقف العربيّ، حكومات وشعوب، لدعم غزة في مواجهة هذا الدعم الدولي غير المسبوق، وتقييم ما قدموه من مواقف وخطوات في ميزان النجاح والرسوب في ضوء أوراق الضغط التي بحوزتهم ومدى توظيفها لخدمة القضية العروبية الأهم والأوحد في التاريخ المعاصر.

مصر
منذ اليوم الأول للحرب اتجهت الأنظار إلى مصر، لاعتبارات التاريخ والجغرافيا والمسؤولية المنوط بها بحكم ثقلها ودورها الإقليمي المؤثر تاريخيًا وبحكم جيرتها للقطاع كذلك، لكنها مارست دبلوماسية عكسية جافة، وضعت أمنها القومي فوق كل اعتبار، وتخلت عما كان يفترض أن تقوم به.

أوراق الضغط: تمتلك مصر حزمة من أوراق الضغط كان يمكن من خلالها التأثير في المشهد وتغيير قواعد اللعبة وثني دولة الاحتلال عن جرائمها الوحشية التي ارتكبتها ضد المدنيين في القطاع، أبرزها: اتفاقية السلام مع المحتل، العلاقات الاقتصادية مع الكيان، التناغم السياسي والأمني بين نظام عبد الفتاح السيسي وحكومة بنيامين نتنياهو، معبر رفح والتماس الحدودي مع قطاع غزة.

الموقف الرسمي: جاء موقف القاهرة مخزيًا مخيبًّا، أدناه الإدانة والشجب والاستنكار، والتحذير منذ بداية الحرب من المساس بالحدود المصرية والاقتراب من الأمن القومي المصري، بل وصل الأمر إلى التلويح ضمنيًا بالموافقة على تهجير فلسطيني غزة لكن إلى النقب وليس سيناء، هذا بخلاف اتهامات واشنطن وتل أبيب بأن النظام المصري هو من يغلق معبر رفح ويمنع إدخال المساعدات إلى القطاع، ما يحول مصر إلى شريك في حرب التجويع التي يتعرض لها مليونا إنسان في كل مناطق غزة.

ورفضت مصر كل المناشدات التي طالبتها باستخدام ما لديها من أوراق ضغط باتجاه الاحتلال، بعد تصاعد الإجرام الإسرائيلي وإحراجه للنظام الحاكم أكثر من مرة، لكن سياسة “ضبط النفس” كما يسميها إعلام النظام ودبلوماسيوه، حالت دون ذلك، مكتفية بالبيانات، فيما خرج رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ضياء رشوان، المتحدث باسم الدولة المصرية أمام الإعلام الخارجي، ليؤكد أن بلاده دمرت جميع الأنفاق مع غزة ودشنت جدارًا خرسانيًا عازلًا معها، في محاولة لتبرئة ساحتها من الاتهامات الإسرائيلية التي تزعم بأن تسليح حماس والمقاومة جاء عبر الحدود المصرية، ليزيد بهذا التصريح من مأزق مصر الفاضح وخذلانها البين وتواطؤها فيما يتعرض له شعب غزة.

الموقف الشعبي: في دولة تحت نظام سلطوي كالتي عليه مصر من الصعب أن يغرد الشارع بعيدًا عن السلطة، التي فرضت طوقًا أمنيًا على الشعب حال بينه وبين التعبير عن رأيه إزاء القضية التي كان يتفق عليها الجميع سابقًا، لتغيب الفعاليات الاحتجاجية التي كانت تزلزل الجامعات والميادين والشوارع الرئيسية دعمًا لفلسطين، ولم يتبق سوى وقفات سريعة في حرم الأزهر وميدان التحرير، وكذلك على سلالم نقابة الصحفيين المصريين، تحت مرأى ومسمع من الأمن الوطني الذي يبعد عنها بأقل من 5 أمتار، لكنها هي الأخرى لم تسلم من التضييق حيث تعرض الكثير من المشاركين فيها للاعتقال من الأمن المصري.

الأردن
بحكم التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا لم يختلف التعويل على الأردن عما كان عليه في مصر، إلا أن النتيجة كانت شبه واحدة، وإن كانت أكثر صدمة بالنسبة للحالة الأردنية، حيث الخذلان الفاضح والانبطاح المخزي والسير عكس اتجاه الشارع الثائر دعمًا لغزة ونصرة لأهلها الذين يتعرضون لواحدة من أقبح جرائم الإبادة في العصر الحديث.

أوراق الضغط: تمتلك المملكة أوراق ضغط عدة، لم تستخدم أي منها لدعم غزة، وعلى العكس استخدمت بعضها بنتيجة عكسية، فلديها اتفاقية سلام مع الاحتلال وعلاقات اقتصادية قوية للغاية وتبادل خبرات وموارد، طاقة ومياه، هذا بخلاف القرب الجغرافي، ومنذ اليوم الأول للحرب والشارع يطالب النظام هناك بتوظيف تلك الأوراق لنصرة الفلسطينيين ووقف حرب الإبادة التي يتعرض لها نساء وأطفال القطاع، خاصة أن قطاعًا كبيرًا من الأردنيين ذوي أصول فلسطينية.

الموقف الرسمي: لم يختلف الموقف كثيرًا عن نظيره المصري، فلغة الشجب والإدانة وتحذيرات تجنب التصعيد هي اللغة السائدة والمسيطرة على الخطاب الرسمي الاردني، وانضوت التحذيرات في معظمها حول عدم المساس بالحدود والأمن القومي للمملكة، فيما تجاهل الملك وحكومته مناشدات الشارع باستخدام أوراق الضغط التي بحوزة المملكة ضد الاحتلال وإثنائه عن جرائمه.

وبدلًا من ذلك وظف النظام الحاكم في الأردن إمكانياته لخدمة الاحتلال، ففتح حدوده لاستقبال شاحنات المساعدات الغذائية المقدمة للكيان عبر الإمارات، بعدما قطع الحوثيون الإمدادات القادمة له بحرًا، كما فتح أجواء المملكة للطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية لإسقاط المسيرات والصواريخ التي أطلقتها إيران باتجاه الأراضي المحتلة ردًا على استهداف قنصليتها في دمشق، في خطوة أثارت غضب الشارع الأردني والعربي، فيما قوبلت تلك الخطوة بحفاوة بالغة لدى الشارع الإسرائيلي الذي طالب بتعميق العلاقات مع عمّان تثمينًا لهذا الموقف.

الموقف الشعبي: كان الشارع الأردني الأكثر حضورًا في المشهد منذ بدايته، حيث الاحتجاجات والفعاليات التي لم تتوقف دعمًا لغزة وأهلها، حيث امتلأت شوارع عمّان بعشرات الآلاف من المتظاهرين، وحوصرت سفارة الاحتلال في العاصمة، لكنها الفعاليات التي واجهها الأمن الأردني بغلظة وقسوة، واعتقالات بالجملة وسحل للفتيات وتنكيل بالمشاركين، في رسالة مباشرة وواضحة للداخل الأردني والإسرائيلي معًا.

سوريا
تتمتع سوريا بقائمة من المحفزات والدوافع التي تجعل من دعم غزة ومؤازرة المقاومة ووضع دولة الاحتلال هدفا مشروعًا لصواريخها مسألة مسلمة وضرورة حتمية، البداية كرد انتقامي على انتهاكات الاحتلال بحق أراضيها واحتلال الجولان منذ عقود طويلة، ثم التماهي مع “محور الممانعة” الذي ظل لسنوات عقيدة راسخة لدى نظام بشار الأسد، يوظفه بين الحين والأخر لتمرير مشروعه السياسي، وهو الفكر الذي لم يغب كثيرًا عن الخطاب الرسمي السوري وإن تراجع منذ 2011 بسبب موقف حماس الداعم حينها للمعارضة والإرادة الشعبية في مواجهة النظام، لكن سرعان ما عادت الأمور إلى نصابها بعد تطبيع العلاقات بين الطرفين مؤخرًا.

هذا بخلاف العلاقات الحميمية التي تربط بين نظام الأسد وطهران، الداعم الأبرز لحماس، وعليه كانت التوقعات تسير باتجاه أن يستغل نظام الأسد ما حدث في غزة لترجمة شعاراته التي طالما تشدق بها بشأن مقاومة الاحتلال وتحرير الأراضي السورية المحتلة والتصدي لمخططات الصهيونية التوسعية في المنطقة، فضلًا عن أن مقاومة “إسرائيل” قد تعيد له شرعيته شعبيًا وعربيًا بعد أن سُحقت نتيجة وحشيته في التعاطي مع شعبه الثائر، لكن الأسد اختار الغياب تمامًا عن مشهد غزة.

أوراق الضغط: بحكم الحدود وقرب الجغرافيا كان من الممكن أن تمثل سوريا ورقة ضغط قوية على جيش الاحتلال، كما هو الوضع مع الحالة اللبنانية، التي تتشابه معها إلى حد كبير، حدود مشتركة محتلة، وعليه توقع الحالمون أن تكون سوريا منصة استهداف كبيرة لقوات الاحتلال ترهقه وتشتت قواه وتخفف الضغط نسبيًا عن غزة.

الموقف الرسمي: غياب شبه تام خيمت على تفاعل النظام السوري مع غزة، إذ اكتفى ببيانات إنشائية ربط فيها بين “طوفان الأقصى” و”حرب تشرين” في محاولة لإثبات حضوره كإحدى الدول التي حاربت الاحتلال قديمًا، فيما خلت معظم التصريحات الرسمية وغير الرسمية من أي إشارة لدعم المقاومة وحق الشعب الفلسطينين، وكعادة النظام أبى إلا أن يكون “قنبلة صوتية” خالية من البارود.

ويبدو أن الخلاف القديم مع حماس جراء رفضها استخدام النظام لها في مواجهة الثورة عام 2011 وتأييد بعض قيادتها للمعارضة وإرادة الشارع وقتها، لازال يسيطر على ذهنية النظام، حيث خلت كافة المواقف الرسمية السورية من أي ذكر للحركة ولا دورها، وكان الاكتفاء على دعم القضية الفلسطينية بصفة عامة، رغم تطبيع العلاقات مع حماس التي اضطرت لإعادة علاقاتها مع نظام الأسد بضغط من إيران.

الموقف الشعبي: يبدو أن السوريين في مناطق النظام قد تأثروا بموقف الأسد وأخذوا نفس الوضعية تقريبًا إذ لم تشهد مناطق سيطرته على أية مظاهرات أو احتجاجات أو فعاليات تضامنية مع غزة. هذا على الرغم من أن موقف السوريين الشعبي التضامني مع غزة لا خلاف عليه.

أما الشارع السوري في الشمال ومحافظة إدلب فقد كان على موعد من الدعم والتأييد للقضية الفلسطينية ونضال غزة في مواجهة الاحتلال، إذ خرجت العديد من التظاهرات الشعبية العارمة في إدلب ومدن عدة في الشمال السوري، كما دُشنت حملات لجمع التبرعات وإرسالها للمتضريين والضحايا في غزة، هذا بخلاف إظهار النشطاء والمؤثرين السوريين دعمهم عبر مقاطع مصورة تناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي أكدوا من خلالها أن القضية الفلسطينية مسألة راسخة في العقل الجمعي السوري مهما كان الوضع المأساوي داخليًا.

لبنان
لبنان هو الضلع الثالث في مثلث الاحتلال بالمنطقة، بعد فلسطين والجولان، وكثيرًا ما يُنظر إليه على أنها الجبهة الأكثر حضورًا وفاعلية في مواجهة جيش الاحتلال، ولعل اختبار 2006 كان مؤشرًا على جاهزية تلك الجبهة وقدرتها على إحداث الفارق، إذا ما توفرت لها الإرادة والابتعاد عن حزمة الاعتبارات والحسابات التي تتجاوز حدود الدولة اللبنانية.

أوراق الضغط: تتشابه الحالة اللبنانية في كثير من تفاصيلها مع الوضعية السورية من حيث الورقة الحدودية التي يمكن استخدامها ضد الاحتلال لتخفيف الضغط على قطاع غزة، وإن كانت نقطة الخلاف الوحيدة هي حجم ما يتمتع به “حزب الله” من قوة وقدرات عسكرية، عمل على بنائها على مدار سنوات طويلة، حتى بات أقوى من جيش الدولة ذاته، وذلك بفضل دعم طهران المطلق الذي حوله إلى أحد أهم الأذرع التي تخدم على المصالح الإيرانية في المنطقة.

الموقف الرسمي: يعاني الموقف اللبناني في مجمله من انقسام حاد بشأن انخراط حزب الله في تلك الحرب، فرغم التصريحات الداعمة لفلسطين والمؤيدة لحقه في الدفاع عن نفسه، فإن مشاركة الحزب المدعوم إيرانيًا في تلك المواجهة أحدث قلقًا كبيرًا لدى النخبة السياسية في البلاد خشية الانجرار نحو حرب الدولة في وضعيتها الحاليّة ليست على استعداد لها.

وتتفق الحكومة اللبنانية والمعارضة معا على ضرورة عدم ترك الساحة لحزب الله، ينفذ فيها الأجندة الإيرانية، حتى لو من باب دعم المقاومة الفلسطينية، التي يرى كثيرون أنها أحد أدوات تمرير طهران لمشروعها الإقليمي ولا تعبر عن موقف أخلاقي أو سياسي لنظام الملالي، فيما طالبت قوى المعارضة بسحب مقاتلي الحزب من الجنوب واتخاذ قرار عاجل يسمح للجيش بالانتشار هناك للدفاع عن الحدود اللبنانية.

وعبر عن هذا الموقف النائب عن حزب القوات اللبنانية، جورج عقيض في تصريحات إذاعية له بقوله: “نعتبر كقوات أن لدينا دولة وجيشًا وحكومة تستطيع أن تتخذ قرار الحرب والسلم ويجب ألا نتخلى عن سيادة الدولة”، مضيفًا: “هناك قرار أممي توافقت عليه الحكومة وحزب الله، يحدد طبيعة الصراع ونصر على تنفيذه، فضلًا عن وضع الشعب اللبناني الهش الذي لا يسمح بالدخول في حرب” داعيًا إلى تجنب الانجرار في حرب مع دولة الاحتلال وذلك من خلال المطالبة بالالتزام بقواعد القرار 1701 والتضامن في الوقت نفسه مع الفلسطينيين، قائلًا: “لكن نحن أكثر دولة عربية دفعت الثمن وأكثر دولة تعيش هشاشة أمنية وعسكرية فقوموا بكل ما يلزم لعدم دخول لبنان الحرب”.

ونجح “حزب الله” بالفعل مع مرور الحرب في أن يكون جبهة فاعلة لإشغال وتشتيت الاحتلال، بما يخفف بشكل أو بآخر على الغزيين، لتصبح الجبهة اللبنانية إحدى أهم الجبهات في معادلة الحرب التي يتوقع أن يكون لها تأثيرها في إسدال الصفحة الأخيرة من الحرب.

الموقف الشعبي: كان الشارع اللبناني أكثر اتساقًا وتلاحمًا إزاء القضية الفلسطينية من النخبة والأطراف الفاعلة في المشهد السياسي والأمني (الحكومة والمعارضة وحزب الله) التي غلب عليها الانقسام والأدلجة، إذ شهدت بيروت تظاهرات داعمة لغزة كما تجمع مئات الطلاب خارج مقر الأمم المتحدة وسط العاصمة للتنديد بالهجمات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة ولبنان.

دول الخليج
من المواقف التي أثارت الكثير من الجدل والانقسامات مواقف الدول الخليجية التي كان يعول عليها البعض في أن تكون فرس الرهان القادر على تغيير المعادلة وإحداث التوازن ودفع الاحتلال وحلفائه للكف عن جرائمهم بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة، وذلك لما لديهم من نفوذ إقليمي وشبكة علاقات دولية متشعبة، مُستمد من ثقلهم الاقتصادي المميز وسيطرتهم على معظم خريطة النفط والغاز العالمية، لكن جاءت المواقف مخزية، بل وصادمة في مجملها.

أوراق الضغط: تمتلك دول الخليج قائمة مطولة من أوراق الضغط التي يمكن – إذا ما توفرت الإرادة – أن تُحدث الفارق في الحرب، أبرزها العلاقات الدبلوماسية الدافئة بين الإمارات والبحرين من جانب و”إسرائيل” من جانب، كذلك التقارب الملحوظ مع السعودية، والعلاقات الاقتصادية اللوجستية الأمنية بين الطرفين، بجانب سلاح النفط والغاز الذي يمكنه أن يقلب الطاولة حال استخدامه لا سيما مع حلفاء الاحتلال من البلدان الغربية التي تعتمد على الطاقة الخليجية.

الموقف الرسمي: ويمكن تقسيمه إلى قسمين:

السعودية والإمارات والبحرين: اكتفت بتصريحات الإدانة والشجب وخطابات الحث والمناشدة دون استخدام لأي من أوراق الضغط التي تملكها، وتواطأت الرياض وأبو ظبي مع الاحتلال في مواجهة حرب الموانئ التي شنتها جماعة الحوثي لتضييق الخناق على الكيان ومنع أي سفن مساعدة من الوصول إليها، حيث تكفلت الإمارات بإرسال جسر من المساعدات الغذائية لـ”إسرائيل” عبر الحدود السعودية الأردنية وصولًا إلى الداخل الإسرائيلي، لتُجهض بتلك الخطوة ما فعله الحوثيون في البحر الأحمر.

وفوق كل هذا تبنى الإعلام الرسمي للبلدين، وعلى رأسه قناتي “العربية” السعودية و”سكاي نيوز” الإماراتية، ومعه الجيوش الإلكترونية الممنهجة، خطابًا مشيطنًا للمقاومة ومشككًا في نواياها وناهشًا في جسد قادتها ورموزها، عازفًا على وتر الدعم الإيراني لحماس وانصياعها لأجندة طهران، وهي السردية ذاتها التي يعتمد عليها الخطاب الإسرائيلي لتشويه قادة المقاومة وتوسيع الفجوة بينها وبين قاعدتها الشعبية في غزة.

قطر والكويت وسلطنة عمان: أعلنت قطر منذ اليوم الأول دعمها للمقاومة الفلسطينية وتحميل الكيان المحتل مسؤولية عملية طوفان الأقصى كونه الذي قاد المشهد إلى هذه النقطة بانتهاكاته المتكررة وجرائمه التي لا تتوقف بحق الفلسطينيين، كما حاولت توظيف نفوذها الدبلوماسي الإقليمي في القيام بدور الوساطة لتخفيف التوتر والعمل لأجل إنهاء الحرب أو تدشين هدن إنسانية لإنقاذ المدنيين في غزة.

الموقف ذاته أعلنت عنه الكويت، ففي الوقت الذي أكدت فيه جارتها الإماراتية على عدم تأثر العلاقات مع الاحتلال بتلك الحرب، جاء الموقف الكويتي مغايرًا، حيث أكد زير الخارجية الشيخ سالم العبدالله على موقف الكويت الداعم للقضية الفلسطينية منذ ستة عقود، مضيفًا أن بلاده “ضد التطبيع ما لم تقم دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 ووفق القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية”، وهو الموقف ذاته الذي اتخذته مسقط رسميًا.

الموقف الشعبي: ويمكن تقسيمه بذات تقسيمات الموقف السياسي، إذ أن ما يريده النظام يلتزم به الشعب، وإلا فالتنكيل والاعتقال والاستهداف المباشر سيكون المصير المحتوم، وعليه جاءت مواقف الشارع السعودي والإماراتي والبحريني تحديدًا متناغمة مع توجهات الأنظمة، هجوم على المقاومة وإساءات متكررة لقادتها وتشكيك في عملية الطوفان ودوافعها وأهدافها، وتبنى منصات التواصل الاجتماعي ذات الخطاب المؤدلج الواحد، كما شارك كتاب معروفون وأسماء لها ثقلها في السعودية والإمارات تحديدًا لتلك الحملات، مع العلم أن مثل هذه الأصوات لا يمكنها أن تكتب كلمة واحدة دون غطاء من السلطات الحاكمة هناك.

المثير للتناقض في الخطاب الإعلامي – المعبر بالفعل عن الموقف السياسي الرسمي – لدول الخليج أنه يرتكز في هجومه على المقاومة الفلسطينية، على قاعدة ولائها لطهران وتنفيذها لأجندة الملالي، رغم أن حكومات تلك الدول لديها علاقات جيدة وعميقة مع إيران، في محاولة لغض الطرف عن مساعي التقارب مع تل أبيب، كونها الجسر الأكبر للدعم الأمريكي، ومن ثم تعزيز النفوذ الإقليمي وترسيخ أركان حكم الأنظمة الخليجية الحاكمة.

أما على المستوى القطري فكان للشارع رأي أخر حيث التظاهرات الاحتجاجية وتعزيز دور المجتمع المدني في جمع التبرعات لسكان غزة وإرسال المساعدات الإنسانية لهم، الوضع كذلك كويتيًا، حيث دشنت مجموعة من التيارات السياسية والجمعيات الأهلية والاجتماعية والناشطين الكويتيين، حملات شعبية متعددة لدعم الغزيين، سياسيًا واجتماعيًا وماديًا.

أما على المستوى اليمني، فتحولت الجبهة اليمنية إلى واحدة من أكثر الجبهات تأثيرًا في المشهد، بعد إشعال الحوثيين حرب “الممرات المائية”، وهي ورقة الضغط الأبرز التي بحوزة اليمن، وذلك لقطع الإمدادات عن الكيان المحتل، لتتحول الجماعة المدعومة إيرانيًا من مجرد فصيل مسلح مؤدلج ومصنف إرهابيًا، إلى كيان ولاعب مؤثر على الساحة، وهي الخطوة التي وإن خدمت الأجندة الإيرانية في المقام الأول، لكنها أسهمت بشكل أو بآخر في تغير قواعد اللعبة في المنطقة، وإن أجهضت دول الخليج ومعها الأردن ما قامت به الحركة من خلال مد الكيان المحتل بالمساعدات الغذائية.

أما بقية الكيانات العربية الأخرى، والمشغولة إما في أزمات سياسية وأمنية أو غارقة في مستنقع مشاكلها الداخلية وأيديولوجياتها الخاصة، فلم تختلف مواقفها عن الموقف العروبي العام، بيانات وتصريحات رسمية تغلب عليها لغة الشجب والإدانة، دون توظيف لأي من أوراق الضغط المحتملة لديها سواء كانت سياسية كالمغرب على سبيل المثال الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع تل أبيب، أم اقتصادية كالجزائر وليبيا حيث النفط الذي يعتمد عليه حلفاء تل أبيب، مع منح الشارع متنفسًا هامشيًا ضئيلًا للتعبير عن دعمه وتضامنه الرمزي مع الفلسطينيين.

وأمام تلك الصورة المخيبة، دخلت البلدان العربية بحكوماتها وإعلامها وجيوشها الإلكترونية الجرارة في منافسات حامية الوطيس لتبرئة ساحتها من دماء الفلسطينيين، عبر مزاعم المساعدات الغذائية، والدعم السياسي الدبلوماسي الضئيل، فاقد الأثر والتأثير، وكأن هذا أقصى ما يمكن تقديمه رغم امتلاك تلك الدول للعديد من أوراق الضغط التي كان يمكنها أن تحول دون الكارثة الإنسانية الراهنة، في مقابل الدعم المطلق غير المسبوق الذي يقدمه حلفاء الاحتلال عسكريًا وسياسيا واقتصاديًا لإبقاء الكيان المحتل المتفوق الأبرز في معركة توازن القوى، دون أي اعتبار للأنظمة والحكومات العربية الحليفة.

وفي ضوء المؤشرات السابقة يمكن قراءة الموقف العربي إزاء الحرب في غزة بعد مرور 200 يوما عليها من خلال بعض النقاط:

عدم استخدام العرب لأوراق الضغط التي بحوزتهم لوقف الحرب وحث “إسرائيل” على التراجع، وعلى رأسها ورقة التطبيع بالنسبة للأردن ومصر والإمارات، وورقة النفط والغاز التي بأيدي دول الخليج، والثقل السياسي والإقليمي بالنسبة لمصر والسعودية.
عجز مصر والأردن عن توظيف ميزة الحدود والقرب الجغرافي مع غزة لصالح سكان القطاع، وعلى العكس من ذلك تحول هذا السلاح إلى سلاح مضاد ضد الفلسطينيين، حيث استخدمه البلدان لخدمة الاحتلال وتشديد الحصار على أكثر من مليوني مواطن داخل القطاع.
تماهي السعودية والإمارات تحديدًا مع السردية الإسرائيلية فيما يتعلق بالتقليل من عملية طوفان الأقصى وتشويه المقاومة والتشكيك في نواياها واستهداف قادتها، هذا بخلاف إجهاض مساعي جبهات المقاومة الأخرى في حصار دولة الاحتلال اقتصاديا كأحد أدوات الضغط عليها.
في الوقت الذي غاب فيه الحضور العربي السني، كان محور الممانعة (لبنان وسوريا والعراق واليمن) هو المحور الأكثر حضورًا في المشهد لدعم غزة وبعثرة أوراق الاحتلال، حتى وإن كان حراكه لخدمة أجندات طهران في المنطقة، لكنه نجح في تشتيت المحتل وتخفيف الضغط نسبيًا على القطاع والمقاومة في غزة.
يبدو أن الاحتلال نجح منذ انطلاق قطار التطبيع في 2020 في ضرب المرتكزات الوطنية العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية حيث نجح في توسيع الهوة بينها وبين الحكومات العربية، إذ تراجعت مكانتها بشكل واضح لدى العديد من الحكومات التي كانت تتخذ من دعم الفلسطينيين شعارها الأبرز.
كان الزخم الشعبي لدعم غزة في الأردن والكويت واليمن هو الأكثر حضورًا رغم القيود والتضييقات، يليه المشهد اللبناني ثم السوري، ومن بعده المصري ثم بلدان شمال إفريقيا، وهي النقطة المضيئة الأبرز التي تؤكد على بقاء القضية الفلسطينية في العقل المجتمعي العربي رغم مخططات التسطيح والتهميش والتجهيل الممنهج.
وفوق كل هذا أثبتت حرب غزة بعد 200 يوم عليها انبطاح معظم الأنظمة العربية وفقدان العرب لرمزية القيادة والزعامة، ولعل من مكرمات تلك العملية أنها أسقطت الأقنعة عن الجميع، فلا زعيم ولا قائد ولا ملك ولا سلطان سوى المقاومة والغزيين الذين قدموا رغم إمكانياتهم المحدودة ما تعجز جيوش العرب.
استخلاصًا لما سبق، وبعد 200 يوم على حرب غزة وبداية المئوية الثالثة، لا شك أن الحكومات والأنظمة العربية بلا استثناء سقطت سقوطًا مدويًا في اختبار العزة والكرامة، وكرست لعهد جديد من الانبطاح والخذلان سُيبنى عليه حتمًا في تدشين خريطة التوازنات الإقليمية الجديدة التي فرضت فيها المقاومة نفسها كلاعب مؤثر لا يمكن تجاهله، وفي المقابل نجحت بعض الشعوب في الخروج بنتائج شبه إيجابية وإن كانت مرتبكة، فيما لم تُغلق صفحات الامتحان بعد.

في علوم السياسة ليست هناك ثوابت، وفي الأديان السماوية يجُبّ الإيمان ما قبله من كفر وشرك، وفي اختبار غزة لم تُغلق الصفحات بعد، رغم ما فات من سقوط وفشل على المستويات كافة، فالفرصة مواتية وسانحة ومستمرة للأنظمة والشعوب على حد سواء، لتصحيح الأوضاع والخروج بأقل الخسائر، فهل من  مُشمّر يستغل الفرصة؟

المصدر: نون بوست