2024-05-02 01:06 ص

قف...!!

2016-05-29
بقلم: سمير الفزاع
عقدت وزارة الحرب البريطانية عدة اجتماعات لمناقشة الإستراتيجية العليا للمملكة في منطقة الشرق الأوسط بدايات القرن الماضي وعشية الصراع مع فرنسا لتقاسم النفوذ في المنطقة، قدم وزير الحربية اللورد "كيشنير" تقريراً مذهلاً فأصبح محوراً للنقاشات، والمصدر الأساسي لهذه الإستراتيجية، والتي اعتقد بأنها ما زالت "فعالة" حتى اللحظة، ويمكن تلخيصها على النحو التالي: 1- على بريطانيا الإمساك بالساحل السوري بدءا من فلسطين وانتهاءً بالاسكندرونة على الحدود التركية... وأقصى ما يمكن أن تقدمه بريطانيا لفرنسا، أن تترك لها جزءا من ساحل سورية الشمالي تحت اشتراطات معينة تستجيب لمطالب السيطرة البريطانية... وفي وصفه الإثني لهذا الشريط قال "كيشنير": مسلمون في سيناء، يهود على سواحل فلسطين، مسيحيون في وسط الساحل السوري ( أي لبنان اليوم)، مسلمون غير سنة في شمال الساحل السوري... ليبقى هذا "الموزاييك" محتاجاً إلى بريطانيا لحمايته من ضغط "الداخل" الصحراوي، ومدخلا لبريطانيا للضغط على هذا الداخل من جهة ثانية. 2- إن الأماكن المقدسة "للمحمديين" في مكة والمدينة يجب أن تكون تحت الحماية البريطانية بطريقة غير مباشرة لمراعاة "التعصب الإسلامي"، وكذلك يجب أن تكون كربلاء والنجف في العراق، ونفس الشيء ينطبق على كنيسة القيامة وقبة الصخرة وحائط المبكى... فذلك يعطي الإمبراطورية البريطانية حق مواجهة العالم كونها حامية كل المقدسات الدينية. 3- يمكن لبريطانيا التفكير جديا في التمهيد لإقامة خلافة إسلامية عربية، شريطة أن تجد "البيت الإسلامي" الذي تعطيه تأييدها مقابل ضمان ولائه لها... تقوم هذه الخلافة في الداخل الصحراوي من "العالم العربي"، فهذه المنطقة بين الخليج الفارسي والبحر الأحمر سوف تظل مهمة للإمبراطورية ولضرورات الدفاع عنها. 4- إن بريطانيا لا بد لها من السيطرة على ما بين النهرين (العراق) لأن هذه هي المنطقة التي يمكن منها منع روسيا من الوصول إلى المحيط الهندي. بالرغم من قدم هذا النص "العبقري" إلا انه يقدم لنا تصورا واضحاً جداً عن اغلب السياسات الغربية في هذه المنطقة لعقود خلت، كما يمكنه أن يقدم لنا منصة استثنائية لناحية وضوح الرؤية، والقدرة التحليلية، واستشراف المستقبل... انه نص مفتاحي بكل تأكيد، وهذه بعض المفاتيح التي يتيحها لمقاربة الحرب الحالية على سورية من زاوية أكثر وضوحاً وجرأة ومباشرة: 1- يجب استهداف "السنّة" في وعيهم وانتمائهم وثقافتهم العروبية والإسلامية لأنهم الكتلة الأكبر في جسد الأمتين العربية والإسلامية، وتحويلهم من كتلة مقاومة تحررية إلى شريك في التوجهات الإمبراطورية البريطانية (والأمريكية لاحقا)... ليكون السادات القدوة لا عبد الناصر، والسنوسي لا عمر المختار، ومحمد بن عبد الوهاب لا محمد بن عبد الله... . 2- أي تعويل على بقية الاثنيات والقوميات الموجودة في أقطار الوطن العربي لن يؤدي الغرض لعدة أسباب منها: * الانتشار: تتوزع هذه الاثنيات والقوميات غالباً في بلدين أو ثلاثة على الأكثر. * العدد: لا تملك العدد الكافي للسيطرة وإحداث الأثر المطلوب في كل البلدان العربية أو أكثرها في الحد الأدنى. * الثروة: كثير من هذه القوميات والاثنيات لا تملك الثروة ولا تسيطر على مصادرها. * التبعات: بعض هذه القوميات والاثنيات تمتد إلى خارج حدود الوطن العربي وقد يتسبب نهوضها بآثار جانبية ضارة. * الارتباط والولاء: تكون المكونات الصغيرة في هذه الفسيفساء أكثر فائدة عندما تكون مرتبطة بالغرب لحماية نفسها وستكون طيعة في تنفيذ إرادته ومشاريعه... وبأنظمة الحكم التي يقيمها الغرب، فإشراكها في بعض مفاصل الحكم سيجعل منها شريكا في الولاء لهذه النظم من جهة ولمن يملك قرارها خلف البحار من جهة ثانية. 3- الإمساك بالأماكن المقدسة والسيطرة عليها يفوق بأهميته الإمساك بالأرض ومن عليها، إنها العصب الأخطر في الحوض اللاهوتي الفريد المسمى المشرق العربي؛ بل وفي العالمين المسيحي والإسلامي... حيث يسهل في هذه المنطقة طرق أبواب التاريخ والدين وفتحها لإخراج إمبراطوريات كبرى مثلت وما زالت تمثل واحد من أسوأ كوابيس الغرب الاستعماري. 4- من غير "المسموح" به اتصال السواحل العربية بعمقها العربي في الداخل، إن ذلك يشكل ضربة قاصمة لمشروع التفتيت الاثني والقومي، وخطوة حاسمة نحو هدم المحميات النفطية، والقضاء على القاعدة الاستعمارية في فلسطين، وربط المشرق العربي باليمن من جهة وعرب شمال افريقية من جهة ثانية، واستعادة الفضاء اللاهوتي العربي-المسيحي-الإسلامي المغيب منذ ألف عام على اقل تقدير، وإعادة الحياة لرحلتي الشتاء والصيف ولطريق الحرير... ألا يفسر هذا جنون الغرب والرجعية العربية من أي اتصال بين سورية والعراق، والإصرار على خلق عداء دائم بينهما؟!. 5- من غير المسموح للمكونات الأصيلة في فسيفساء الساحل السوري استلام مقاليد الحكم في بلدانها إذا ما حاولت ذلك، وإذا ما تمّ ذلك فيجب أن يكون ضمن شروط صارمة لا تهاون فيها: ممنوع الاتصال بالداخل العربي بأي صيغة وحدوية. تلبية المصالح الغربية. للغرب اليد الطولى في رسم مفاصل الحكم وشكله. لا علاقات خاصة مع أعداء الغرب... وللتذكير، فقد ارتكب الرئيس بشار حافظ الأسد هذه "الموبقات" مجتمعة، لقد "انفتح" على العراق ابعد مما وصل غيره، وجعل من حلب رئة لبغداد... فربط الساحل بالداخل، وتجاوز موزاييك الطوائف والأعراق، وبعث طريق الحرير، وانحاز كليّة للمشروع المقاوم الذي يصطدم مباشرة بالمشروع الغربي، ومد بصره إلى ما وراء جبال الأورال ليصل دمشق بموسكو وبيروت بستالينغراد وبغداد بسان بطرسبرغ وعدن بالقرم... . 6- في إطار بحثها عن "البيت الإسلامي" الملائم لإقامة خلافة إسلامية عربية مضمونة الولاء، عملت بريطانيا على خلق هذا البيت عبر محمد بن عبد الوهاب فكانت الوهابية، ثم عمدت إلى خلق محميّة لعائلة مضمونة الولاء تقوم "فكرياً" على هذا الفكر الوهابي، فظهرت مملكة آل سعود من العدم... لتلبي حاجات الإمبراطورية وضرورات الدفاع عنها. داعش، أُريد لها أن تكون السيناريو المكرر لتجربة مملكة آل سعود "الناجحة" وإن تراجعت "القدرة الكليّة" للغرب فاستحال تحقيق بعض الأهداف بالكامل... مثلاً: إن فشلنا بإعادة السيطرة على العراق كاملاً لنأخذ جزءً منه يحقق قدراً معقولاً من أهدافنا بقطع طريق الحرير، وفصل بغداد عن دمشق، ومنع اندماج العراق بكليته في حلف المقاومة... . ختاماً، في العمق، قام الغرب يوما بإفراغ سجونه تماما من قاطنيها لتحملهم السفن إلى "ارض الأحلام"، وبعد إبادة 20 مليون من سكانها الأصليين، وتجريف حضارتهم ونهب خيارتهم، ظهرت "دولة" باتت تدعى اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية... وفي الأمس القريب، رحلوا مئات الالآف من يهود أوروبا الذين كانوا يقطنون "غيتوهات" تشبه إلى حدّ كبير تلك السجون الأوروبية إلى "ارض الميعاد" ليحتلوا فلسطين، ويقيموا هيكلهم المزعوم على جماجم شعبها وشعوب المنطقة، ومرة ثانية بعد تجريف حضارة ونهب خيرات السكان الأصليين. لكن صهاينة القوارب كانوا اقل من المطلوب، والأرض المستهدفة اكبر من قدرتهم، وتشكل حلف من السكان الأصليين اظهر مقاومة أصلب وأقوى وأشد من "هنود" الأمس... فاضطروا إلى اللجوء للسجون مرّة أخرى، فاستعانوا بقاطني "غوانتانامو" وأبوغريب وبوكا وسجون مملكة آل سعود... لتسيير جيش من القتلة إلى سورية والعراق، لإتمام مشروع الغزو والنهب الأمريكي-الغربي المستمر منذ قرون، لتكون داعش آخر تجلياته... وفي كل مرّة كان هناك رجل دين يحرض على الغزو باسم الرب، وبيت مال يمول الغزو، ورجل سياسة يطمح بالمزيد من النفوذ. إننا نقف على مفترق طرق، إما أن نصبح في هذا المشرق "الهنود الحمر" للقرن الواحد والعشرين أو أن نستعيد أنفسنا من التيه بدحر هذا الغزو، وتحرير فلسطين ومكة وكل شبر جعلوا منه منصة غزو ونهب... هذا هو جوهر الصراع وما تبقى ليس أكثر من خدع كرروها دائماً... نعم هي معركة اكبر من حدود سورية بكثير، ولكن متى كانت معارك سورية على قدر حدودها؟. انتصرت بالأمس وهي منتصرة اليوم بكل تأكيد... وطلائع حزيران موعدنا.