2024-05-09 01:55 ص

بوتين وملامح المشهد الدولي...

2016-06-19
بقلم: علي قاسم
ربما نستطيع أن نجزم بأن توقيت حديث الرئيس بوتين لم يكن مرتبطاً بآخر ما تسرّب عن مذكرة إعلان الحرب الصادرة عن دبلوماسيين مجهولي الهوية والموقع في وزارة الخارجية الأميركية، لكنه بالتأكيد انطوى على إجابات تفيد الرد المباشر وغير المباشر على شهوة العدوان المنفلشة من بعض الدوائر الأميركية الملحقة،

وحلف فريق الحرب داخلها، فالحديث مقرر قبل المذكرة، ويوصف الماضي كما الحاضر، ولكنه يحاكي المستقبل أيضاً، فما ورد في المذكرة وطريقتها وتوقيتها جاء منظوراً وممهوراً بسياسات أميركية تترجم جزءاً من تمنياتها على المستوى العالمي.

فقد رسم الرئيس بوتين بكثير من التفصيل والصراحة واقع العلاقات الدولية ومؤشرات القلق الواضحة في مساحات المشهد الدولي، وربما أسبابها ودوافعها وحتى تداعياتها، ولم ينسَ بعضاً من تلك التي استجدَّت بعد الخطاب، لكنه حدّد في الوقت ذاته الملامح التي تطمح روسيا إلى تحقيقها في المشهد العالمي الجديد وفق مقاربة بدَت للكثيرين أنها تصلح لتكون دليل عمل بين القوى الكبرى على المسرح العالمي.. وفي أقله وجهة نظر روسية للخروج من نفق الأزمات الضاغطة، وتجنّب المواجهة التي تلوح في الأفق.

ما قدمه الرئيس بوتين، ليس نتاج حالة عارضة أو مؤقتة، ولا ينطلق من وجهة نظر تحاكي مصالح روسيا الذاتية أو مفهومها الخاص، بقدر ما يعكس تراكماً في التجربة على مدى سنوات خلَت -بحكم المهام الاستثنائية والمفاجئة ببعضها- أنضجت هذه الشمولية في النظرة إلى الأحداث العالمية وتركيبة الخارطة الجيوسياسية التي أضافت تحديات ومخاطر لم يكن بمقدور روسيا أن تتجاهلها، ولا أن تدير ظهرها لها من موقع مسؤوليتها بصفتها دولة عظمى في المشهد الدولي، يتوافر لديها ما يكفي من معطيات لرسم خط التقاطعات ومنحنى التباينات الحادة والزوايا المظلمة في العلاقات الدولية.

الأهم أن الحروب والمخاطر التي تتهدد العالم كانت نتاج وصفة غربية وسياسة بالغت في التجنّي على القيم الدولية والشرعية، ومبادئ القانون الدولي الذي تحول إلى مطيّة تخدم الأهداف والأجندات وترسم مساحة الأطماع، حيث ثورات الغرب الملونة كانت وراء الفوضى والخراب، وربيعها الدموي أدى إلى تفشي الإرهاب بما يمثله اليوم من تحدّ يعدّ الأخطر والأشد كارثية.

الإدراك الروسي هذا ينطلق من اعتبارات كانت ترسم على الأقل ملامح الاتجاهات التي تشكل نقاط الخلاف الفعلية مع العقل الغربي ومنظومته القائمة على الهيمنة ومحاولة الاستلاب للشعوب والدول وللعالم ككل، لكنه لا يستسلم لتلك النقاط ولا يأخذ بها كقدر مُنزل كما يريدها الغرب، بل يقدم بدائل تستمد تفاؤلها من التقاطعات التي تفرضها المصالح الكبرى للدول -صغيرها وكبيرها- في الاستقرار العالمي، وما يستوجبه من معطيات تتيح مساحات موازية من الاتفاق والتفاهم على تحديد المخاطر ومواجهتها.

الدور الروسي الذي حدّده الرئيس بوتين يتجاوز ما كان يعتقد في بعض الأروقة بأنه فقط محاولة تعبير عن نقاط القوة الروسية، حيث أراد أن يضع هذه العوامل في خدمة الاستقرار العالمي، وفي مواجهة المخاطر التي تهدده، وفي رسم روزنامة من الحلول المنطقية لما يعترض العلاقات الدولية، حيث المقاربة هنا لا تشي بذاتيتها، بقدر ما تترجم موضوعية أربكت الغرب، ووضعته في خانة الاتهام من دون الحاجة إلى أن يتهمه أحد، وفي موقع الشبهة وقد توفر ما يكفي من قرائن.

بهذا التوصيف لم تكن كلمات الرئيس بوتين مجرد موقف روسي يحاكي الواقع الدولي، بقدر ما كانت تقدم رؤية مستقبلية لتلك التحديات والمخاطر، والطريق القويم للتعاطي معها ومع ما ينتج عنها، حيث لم يكتفِ بوصف السياسة الغربية بما فيها فحسب، بل أيضاً وبما هو مطلوب منها لتكون على قدَر المسؤولية، إذ تنتقل المقاربة الروسية من الدعوة إلى تقاسم المصالح على المستوى العالمي إلى تقاسم التصدي للمشكلات والمخاطر، ومن الحديث في العموميات والعناوين إلى الشرح المسهب للتفاصيل والجزئيات، مع رسم حدّ فاصل بين الممكن والمتاح، وبالتالي متى يكون مسموحاً وكيف يكون ممنوعاً.

عند هذا التقاطع كانت الحتميات الغائبة تحضر.. والمحظورات المنسية تستعيد وجودها، حيث ما كان غير مسموح في الماضي لن يكون كذلك في الحاضر أو المستقبل، وما عملت عليه روسيا طوال خمس سنوات ونيف لن يكون موضع تفاوض أو مساومة، فالقضية ليست مصالح ولا هي أطماع، ولا هي مساحة نفوذ على المستوى العالمي، بل محض مسؤولية قبلت روسيا أن تتصدى لها، ورضيت أن تدفع ضريبة ذلك، وهي جاهزة ومستعدة أكثر من أي وقت مضى لكل ما تستدعيه تداعياتها.

الطريق إلى التفاهم واضح والدروب أو المعابر الموصلة إلى المواجهة بيّنة وعلنية أيضاً، فالشرعية الدولية والتمسك بالقانون الدولي هما موضع معايرة للسياسات، ولو حاول الغرب تغييبهما أو مصادرتهما، وما يستقيم معهما قابل للنقاش والحوار والمجادلة وما يتعارض سيكون دائماً نقطة خلاف مع الغرب وأدواته وشركائه.

فروسيا التي تتعامل حتى اللحظة بردّة الفعل تجاه الكثير من الخطوات العدائية للغرب في محيطها الحيوي أو خارجه ستكون مضطرة حينها لما هو أبعد من ردّة الفعل أو ما يتجاوزها، بغية وقف الانزياح الخطير في مقاربات الرؤوس الحامية وتمنيات لغة الأطماع، لأن كرة الفوضى والخراب إذا ما تدحرجت على بساط المشهد الدولي المنزلق فسيكون من المستحيل إيقافها.. ومن العبث الوقوف أو الجري خلفها..!!
عن صحيفة "الثورة" السورية