2024-05-19 07:44 م

توفيق زيّاد: إرث سياسي وأدبي باقٍ فوق صدر المحتل

وُلد الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد في مايو/ أيار 1929 في ظل الانتداب البريطاني، وعاصر نكبة عام 1948 ولم يتجاوز عمره العقد الثاني، فانشغل بهموم وطنه وانخرط في العمل السياسي مبكرًا، وشارك في الفعاليات المناهضة للاحتلال وارتبط اسمه بـ”يوم الأرض”.

نشط زيّاد سياسيًّا وأدبيًّا، إذ نظم القصائد والأعمال الشعرية التي تدور حول الوطن والمقاومة، وتحولت بعض هذه القصائد إلى أغانٍ وأصبحت جزءًا من التراث الحي لأغاني المقاومة الفلسطينية، ما جعله مستهدفًا من السلطات الإسرائيلية طيلة حياته.

العمل السياسي
رأى زيّاد أن العمل السياسي له أن يخدم وطنه، فسارع إلى الانتساب للحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهو حزب يساري يهودي-عربي معادٍ للصهيونية، تأسّس عام 1919 من اتحاد من تبقّى من أعضاء عصبة التحرر الوطني في فلسطين.

جاء انضمامه إلى هذا الحزب بالتحديد نتيجة تأثره بالفكر الشيوعي منذ دراسته الثانوية في مدارس بلدة الناصرة الحكومية، وزاد تعلقه بهذا الفكر خلال سفره للدارسة إلى الاتحاد السوفيتي، ودراسة الفلسفة والاقتصاد السياسي بين سنتَي 1962 و1964.

تولى الشاعر الفلسطيني العديد من المناصب في هذا الحزب، إلى أن اُنتخب سنة 1964 سكرتير الحزب، وبعدها بسنة انقسم الحزب الشيوعي نتيجة الصراع بين الاتجاه المؤيد للصهيونية والاتجاه المناهض لها الذي يضمّ أغلبية عربية، وأسّس هؤلاء القائمة الشيوعية الجديدة “راكاح”، وكان زيّاد منهم.

اُنتخب في يناير/ كانون الثاني 1974 عضوًا في الكنيست الإسرائيلي عن “راكاح” الذي أصبح عضوًا في مكتبه السياسي، واشتهر بمرافعاته القوية ضد سياسات الاحتلال الإسرائيلي، ومناهضته لسياسات الاستعمار والعنصرية التي اتّسم بها المحتل.

تواصلت عضويته في الكنيست لـ 6 دورات انتخابية، وفي الأثناء اُنتخب رئيسًا لمجلس بلدية الناصرة في يوليو/ تموز 1975، وكان أول عربي يتولى هذا المنصب 3 فترات انتخابية لما يقرب من 20 عامًا، كما كان عضوًا في لجنة الدفاع عن الأراضي الفلسطينية.

ضمن نشاطه السياسي، ساهم توفيق زيّاد في تأسيس “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة” (حداش) سنة 1977، وهي عبارة عن تحالف قوى شيوعية ودعاة سلام ومساواة من العرب واليهود داخل الكيان الإسرائيلي.

فضلًا عن نشاطه السياسي كان له نشاط نقابي أيضًا، إذ نشط خلال الخمسينيات في إطار مؤتمر العمّال العرب الذي عُقد مؤتمره الأول في أبريل/ نيسان 1946 في مدينة القدس، بمشاركة 55 مندوبًا يمثلون 25 فرعًا، وبعد حلّه في يوليو/ تموز 1953، انضم إلى الكتلة الشيوعية داخل منظمة “هستدروت” (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية).

حاول زيّاد من خلال نشاطه السياسي والعمالي نصرة الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم، خاصة فلسطينيي الداخل، نتيجة المعاناة والتضييقات الكبيرة التي كانوا يتعرضون لها من الاحتلال الإسرائيلي، وغياب الأصوات الفاعلة المدافعة عنهم.

يوم الأرض
برز توفيق زيّاد في العديد من المحطات النضالية المتعلقة بالمقاومة الفلسطينية، فقد كان مناهضًا للاحتلال الإسرائيلي ومدافعًا قويًّا عن الحقوق الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، من ذلك دوره الكبير في “يوم الأرض” سنة 1976، الذي قال فيه إن مواجهة “إسرائيل” هي قرار الشعب.

يوم 29 مارس/ آذار 1976، عقدت “لجنة الدفاع عن الأرض” المنبثقة عن لجان محلية فلسطينية اجتماعًا في مدينة الناصرة التي يترأّس بلديتها توفيق زيّاد، وقررت الإعلان عن إضراب عامّ شامل في 30 مارس/ آذار 1976، رفضًا لمصادرة السلطات الإسرائيلية مساحات شاسعة من أراضي السكان العرب في عدة بلدات وقرى من أراضي 48.

بالتوازي مع ذلك، أعلنت السلطات الإسرائيلية حظر التجوال في القرى التي شهدت مصادرة للأراضي، واعتبرت أي تظاهرة ستخرج احتجاجًا على المصادرة غير قانونية، لكن زيّاد ومن معه تحدّوا الاحتلال الإسرائيلي ونفّذوا الإضراب الشامل وخرجوا في مظاهرات شاملة.

واجهت سلطات الاحتلال تحركات الفلسطينيين بالقوة، وأطلقت الرصاص الحي على المتظاهرين، ما أسفر عن استشهاد 6 فلسطينيين وجرح 49 آخرين واُعتقل أكثر من 300، كما تمّت مداهمة منزل توفيق زيّاد الذي اُعتبر العقل المدبّر والمخطط لهذه التحركات النضالية التاريخية الرافضة لسياسة التهويد.

يعد هذا اليوم أول صدام يحدث بين الجماهير الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة عام 1948 وسلطات الاحتلال هناك، ومنذ ذلك التاريخ يُحيي الفلسطينيون يوم الأرض كل 30 مارس/ آذار، من خلال تنفيذ فعاليات مختلفة تتخللها غالبًا اشتباكات مع الجيش الإسرائيلي.

وما زال اسم توفيق زيّاد يرتبط بـ”يوم الأرض” الفلسطيني الذي يعدّ علامة بارزة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الكيان الإسرائيلي، فقد نجح في تحريض فلسطينيي الداخل على الثورة والوقوف في وجه المحتل بصدور عارية، حتى لا تصادر أرضهم.

تضييق وملاحقات
تصاعد اسم توفيق زيّاد سياسيًّا ونقابيًّا، وكان له حظوة جماهيرية كبرى لدى الفلسطينيين، فقد كان رمزًا لا يخاف سطوة الاحتلال وغطرسته، محرّضًا على الثورة والانتفاضة، وداعيًا إلى استرجاع الحقوق بكل الوسائل المتاحة دون استثناء.

نتيجة ذلك، ظل زيّاد مستهدفًا من الاحتلال طيلة حياته، وتتالت الاعتداءات على منزله وعائلته بغية صدّه عن مناهضة السياسة الإسرائيلية العنصرية، ومنع وقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني والدفاع عن القضية الفلسطينية.

رغم شغل منصب رئيس بلدية الناصرة وعضوية الكنيست، فإن ذلك لم يكن حائلًا أمام الاحتلال للاعتداء عليه جسديًّا والتنكيل بعائلته في أكثر من مناسبة، ومنها إضراب صبرا وشاتيلا سنة 1982، وإضراب ريشون لتسيون سنة 1990، وإضراب مجزرة الحرم الإبراهيمي سنة 1994.

ضمن سياسة التشفّي والترهيب التي اتّبعها الاحتلال ضد زيّاد، سُجن في أكثر من مرة وكانت البداية سنة 1949، وتنقّل بين سجون طبرية والدامون والجلمة والرملة، وهناك تعرض لمعاملة سيّئة من سلطات الاحتلال قصد دفعه إلى التراجع عن قضيته.

لم يتوقف الاحتلال عند سجن زيّاد، فقد وضعه رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي أيضًا، إلا أنه لم يتوانَ لحظة عن الدفاع على الحق الفلسطيني في العيش بكرامة داخل دولة فلسطينية مستقلة، تضمن حقوقه وحرياته بعيدًا عن الاحتلال الإسرائيلي.

عدم تراجع زيّاد دفع الاحتلال الوحشي إلى محاولة اغتياله في الكثير من المرّات، منها محاولة اغتياله في مايو/ أيار 1977 وهو عائد من اجتماع شعبي في طمرة، ونجا منها بأعجوبة، ويومها قال: “قد يخترق الرصاص جسد الإنسان، لكن لا يخترق محبة الإنسان لشعبه”.

أراد الاحتلال الإسرائيلي تصفية توفيق زيّاد، إلا أنه بقي متجذّرًا في أرضه وفيًا لوعده: “هنا باقون على صدوركم كالجدار”، منحازًا إلى هموم ومعاناة الفلسطينيين في الداخل المحتل، دون أن يتوانى لحظة عن تأدية واجبه تجاه وطنه.

شاعر المقاومة
لم يقتصر نشاط “أبو أمين” على الجانب النقابي والسياسي فقط، بل قال الشعر أيضًا خدمة لقضيته المركزية، ففي مرحلة مبكرة من عمره برزت موهبة زيّاد الشعرية، وكانت محاولاته الأولى على النمط الشعري القديم أواخر الأربعينيات.

كانت موضوعات أشعار زيّاد في البداية تتمحور حول الغزل دون التطرُّق إلى فلسطين، لكن مع نهاية الخمسينيات تحولت الموضوعات نحو الوطن، ففي سنة 1957 كتب قصيدة “حصاد الجماجم” التي نُشرت في أعقاب مجزرة كفر قاسم بمجلّة “الجديد”، ويقول فيها: “ألا هل أتاك حديث الملاحم، وذبح الأناسي ذبح البهائم، وقصّة شعب تسمّى “حصاد الجماجم” ومسرحها قرية اسمها كفر قاسم؟”.

يضيف: “يقول الدعيّون الغاصبون، بأنا أقلية سوف تُجلى، وأنّا سنفنى اضطهادًا وذلًا، ولكن.. أقلية نحن؟ كلا ومليون كلا..”، ليسجّل بذلك موقفًا متميزًا بصلابته، ويبيّن مخاوفه التي كانت سببًا في صرخته ونضاله العنيد.

وبرز توفيق الزياد كشاعر للمقاومة خلال النصف الثاني من الستينيات وأوائل السبعينيات، إذ كتب العديد من القصائد التي تمحورت حول النضال والكفاح والأممية، وبعض هذه القصائد تحوّل إلى أغانٍ، وأصبح جزءًا من التراث الحي لأغاني المقاومة الفلسطينية.

عكست أشعار زيّاد مواقفه الأممية وركزت على قضايا الشعب الفلسطيني، وحتى تصل إلى الجمهور بسهولة وسلاسة ركّز في كتابتها على البساطة رغم عمق معانيها، فحفظتها الجماهير العربية وتغنّت بها وزادت ارتباطها بالقضية الفلسطينية.

حمل أول ديوان لشاعر فلسطين عنوان “أشدُّ على أياديكم”، وكان عبارة عن رسالة إبداعية صوّرت معاناة الإنسان الفلسطيني في أرضه التي اغتصبها الصهاينة منه عنوة، وإصراره على الكفاح والبقاء لمواجهة مخططات محو الهوية الفلسطينية.

يقول زيّاد: “أناديكم.. أشد على أياديكم، أناديكم، أشد على أياديكم، أبوس الأرض تحت نعالكم، وأقول: أفديكم، وأهديكم ضيا عيني، ودفء القلب أعطيكم، فمأساتي التي أحيا، نصيبي من مآسيكم، أناديكم أشد على أياديكم، أنا ما هنت في وطني ولا صغرت أكتافي، وقفت بوجه ظلامي، يتيمًا، عاريًا، حافي، حملت دمي على كفي، وما نكست أعلامي”.

ينادي زيّاد من خلال هذه القصيدة أبناء وطنه ويشدّ على أيديهم ويحثهم على الثبات في مواجهة الاحتلال والاستعمار الصهيوني، ويفتخر بصمودهم وتحديهم لهذا الاحتلال الغاشم، مؤكدًا أنه يفدي أبناء شعبه بروحه، فهو يشاركهم المأساة ويتحمل المسؤولية معهم.

أثبت زيّاد من خلال قصائده المختلفة قوة وثبات الفلسطينيين، وصوّر شعبًا مناضلًا يريد البقاء لا الفناء، شعبًا عاشقًا متمسّكًا بالحياة كارهًا للموت، فموعده مع الحرية والتحرر قريب دون شك، والمسألة مسألة وقت لا أكثر.

يقول الشاعر في قصيدة “ادفنوا موتاكم وانهضوا” الصادرة سنة 1969: “يا ترابًا كلُّه تبرٌ وياقوتٌ وعاجْ، حبُنا أقوى من الحب وأغنى، فادفنوا أمواتكم وانتصبوا فغد – لو طار – لن يفلت منا، نحن ما ضعنا.. ولكن من.. جديد..قد.. سُبكْنا”.

عبّر في هذه القصيدة عن مرارة هزيمة سنة 1967 والوجع العربي الكبير، إلا أنه أكّد ضرورة النهوض والمقاومة وعدم الركون إلى الراحة، فالقضية تقتضي وجود رجال شجعان يفدونها بأرواحهم نصرة لها.

معانته لم تمنعه من كتابة الشعر، فحتى وهو في السجن كرّس وقته للقضية الفلسطينية، إذ كتب العديد من القصائد وهو بالسجن منها “أشد من المحال”، ويقول فيها: “يا أخوتي! هذا التراب ترابنا، رغم الليالي، أرويته بدمي ودمعي، طول أيامي الخوالي.. يا أخوتي! الأرض تهتف، بالنساء وبالرجال، هيا نلبي.. إننا، شعب أشد من المحال!”.

إلى جانب هذه الدواوين، كتب زيّاد كثيرًا من الأعمال الشعرية الأخرى، ومنها “أغنيات الثورة والغضب”، و”أم درمان المنجل والسيف والنغم”، و”كلمات مقاتلة”، و”عمّان في أيلول”، و”تهليلة الموت والشهادة”، و”سجناء الحرية” وقصائد أخرى ممنوعة.

في كل هذه القصائد ركّز زيّاد على الوطن والكفاح ومعاناة الفلسطينيين، ما زاد من انتشار أشعاره وجعلها حاضرة في المشهد الفلسطيني والعربي، حتى لحّنها وغناها الفنان المصري الشيخ إمام عيسى، والفنان اللبناني مارسيل خليفة، والمقدسي مصطفى الكرد، وحسين نازك وغيرهم.

برز توفيق زيّاد سياسيًّا مناضلًا ونقابيًّا قويًّا في بداية شبابه، ثم برز شاعرًا ثوريًّا منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، فعانى من تضييقات الصهاينة ولم يرتاحوا إلا بعد أن توفي يوم 5 يوليو/ تموز 1994 في حادث سير مروع، وهو في طريق عودته من مدينة أريحا بعد مشاركته في استقبال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وحتى بعد وفاته لم يهنأ الصهاينة، فمواقف زيّاد وأشعاره ما زالت خالدة لدى الفلسطينيين والشعوب العربية.

المصدر: نون بوست