2024-04-26 07:00 م

لماذا استبعد ناريندرا مودي "رام الله" أثناء زيارته لإسرائيل؟

2017-07-07
بقلم: د. محمد فرحات
درج معظم رؤساء الدول والحكومات، أثناء زيارتهم لإسرائيل، على زيارة رام الله، مقر السلطة الوطنية الفلسطينية، ولقاء رئيس السلطة، وذلك كإشارة على الالتزام التقليدي بدعم القضية الفلسطينية، وكنوع من الحفاظ على علاقات متوازنة مع طرفي الصراع، أو بمعنى أدق توصيل رسالة بأن وجود علاقات قوية مع إسرائيل لا يعني التخلي عن دعم الحقوق الفلسطينية. وفي اتجاه آخر، فقد امتنع بعض رؤساء الدول والحكومات عن القيام بأي زيارات إلى إسرائيل رغم وجود علاقات دبلوماسية، وعلاقات سياسية وأمنية واقتصادية قوية معها، ومثلت الهند نموذجًا لهذه الحالات. فرغم اعتراف الهند بإسرائيل في سبتمبر 1950، والارتقاء بمستوى التمثيل الدبلوماسي إلى السفارة في سنة 1992، لكن لم يقم أي رئيس وزراء هندي بزيارة إسرائيل منذ تأسيس الهند وإسرائيل. وقد ظل هذا الوضع قائمًا حتى قام رئيس الوزراء الهندي الحالي، ناريندرا مودي، ببدء زيارة لإسرائيل يوم الثلاثاء الماضي (4/7/2017) بعد 70سنة من تأسيس الهند، وحوالي 67 سنة من اعترافها بإسرائيل.

وكان ملفتًا إسقاط مودي لرام الله من جدول زيارته، ليكتفي بزيارة إسرائيل، وهو ما أثار تساؤلًا مهمًا حول السياق الذي دفع بمودي إلى هذا القرار؟ وهل يعني ذلك سقوط القضية الفلسطينية والعلاقة مع العالم العربي من بين قائمة المحددات والحسابات الهندية في إدارة علاقتها بإسرائيل؟ خاصة أنها أول زيارة لرئيس وزراء هندي لإسرائيل كما سبق القول.

واقع الأمر لا يمكن فهم قرار مودي استبعاد رام الله من زيارته بدون فهم التطور الذي لحق بالعلاقات الهندية- الإسرائيلية، من ناحية، والتراجع الذي لحق بالوزن النسبي للمحدد العربي في السياسة الخارجية تجاه إسرائيل، من ناحية ثانية، فضلا عن التطور النوعي الذي لحق بالعلاقات الهندية- الإسرائيلية والمكاسب الهندية الضخمة من علاقاتها مع إسرائيل، من ناحية ثالثة، الأمر أعطى لإسرائيل ميزات نسبية كبيرة مقارنة بالعالم العربي.

1- تطور العلاقات الهندية- الإسرائيلية... تجاوز مرحلة ما قبل التسعينيات

شهدت العلاقات الهندية- الإسرائيلية نموًا متسارعًا على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية. والملاحظة المهمة بخصوص تلك العلاقات هو انتقالها وتحولها السريع بين مرحلة كان العالم العربي يتعامل فيها مع الهند باعتبارها "صديقًا مضمونًا"، خاصة فيما يتعلق بمساندة الحقوق العربية في الصراع مع إسرائيل، وانطلاق العالم العربي من افتراض أن العلاقات الهندية مع كل من العرب وإسرائيل أقرب إلى المباراة الصفرية، بمعنى أن كسب الهند "لإسرائيل" سيعني خسارة العرب والعكس. هذه المعادلة ظلت صالحة نسبيًا لعقود طويلة نتيجة سياسات دولية وإقليمية محددة حكمت السياسة الخارجية الهندية خلال الفترة منذ قبل استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني وحتى نهاية عقد الثمانينيات. غير أن تغير هذه السياسات أدى إلى تغيرات جوهرية في طبيعة العلاقات الهندية- الإسرائيلية.

ولازالت الكثير من الكتابات العربية تركز على فهم التحول في العلاقات الهندية- الإسرائيلية في سياقات تبتعد بها عن فهم العوامل الموضوعية التي قادت إلى التحول في التوجهات الهندية تجاه إسرائيل، من قبيل اختزالها، على سبيل المثال، في التآمر "الهندوسي- اليهودي" على العالم الإسلامي. مثل هذه الكتابات العربية تقع في خطأين أساسيين، الأول هو اختزال أسباب تطور العلاقات الإسرائيلية- الهندية في استهداف العالم العربي والإسلامي على أساس "قومي" أو "ديني". والخطأ الثاني هو اختزال أسباب تطور هذه العلاقات في الدوافع الهندية أو الإسرائيلية فقط- رغم أهميتها- إذ تظل هناك مسئولية عربية وإسلامية عن حدوث النقلة المهمة في هذه العلاقات.

إن فهم تطور العلاقات الإسرائيلية- الهندية يجب أن يميز بين مرحلتين مهمتين في تطور هذه العلاقات، الأولى هي مرحلة ما قبل عقد التسعينيات، وتمتد من إنشاء إسرائيل وحتى سنة 1992، حيث اتسمت العلاقات بين البلدين بالمحدودية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية. بينما بدأت المرحلة الثانية من سنة 1992، والتي دشنت لنقلات نوعية كبيرة في العلاقات بين البلدين. ولم يقتصر التمايز بين المرحلتين على حجم وكثافة العلاقات بين البلدين، ولكنه تضمن تغيرات مهمة فيما يتعلق بموقع العلاقات الهندية- العربية كمحدد مهم في العلاقات الهندية- الإسرائيلية.

فقد اتسمت العلاقات الهندية- الإسرائيلية خلال عقود الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي بالمحدودية، سواء فيما يتعلق بالعلاقات السياسية والدبلوماسية، أو العلاقات الاقتصادية والتجارية، أو العلاقات الثقافية. فعلى الرغم من اعتراف الهند بإسرائيل في سبتمبر عام 1950، وسعي إسرائيل الحثيث خلال تلك الفترة إلى توسيع نطاق علاقاتها الخارجية في محاولة لتكريس الاعتراف الدولي بها كدولة، والالتفاف على التوجهات العدائية العربية تجاهها، إلا أنها لم تنجح في تطوير علاقاتها مع الهند، فقد ظل حجم التمثيل السياسي عند مستوى التمثيل القنصلي حتى سنة 1992.

لقد جاءت محدودية العلاقات بين البلدين خلال تلك المرحلة نتاجًا للسياسات الدولية السائدة آنذاك، والمتمثلة أساسًا في الحرب الباردة، وعدم الانحياز، وأولوية قضايا التحرر الوطني. وقد كان لهذه البيئة تأثيرها على العلاقات الهندية- الإسرائيلية من زوايا عدة. فمن ناحية، نظر حزب المؤتمر الحاكم في الهند- آنذاك- إلى "المشروع الصهيوني" باعتباره امتدادًا للاستعمار الغربي. ومن ناحية أخرى، فقد كان لقرار إنشاء إسرائيل دلالة خاصة من وجهة النظر الهندية، فقد نشأت إسرائيل بنفس الطريقة التي نشأت بها الهند، وهي التقسيم على أساس ديني، وهو ما كانت تعارضه  النخبة الهندوسية، حيث كانت تطرح بديل "دولة واحدة وأمتان". كما كان للعلاقات الهندية- الأمريكية خلال تلك المرحلة، والتي اتسمت بدرجة من عدم الثقة، انعكاسها على العلاقات الهندية- الإسرائيلية. واستنادًا إلى تلك المنطلقات، فقد صوتت الهند ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 29 نوفمبر سنة 1947 والخاص بتقسيم فلسطين وإنشاء "دولة إسرائيل". وعلى الرغم من تغير الموقف الهندي نسبيًا، حيث اعترفت بإسرائيل في سبتمبر 1950، ووافقت على فتح قنصلية إسرائيلية في مومباي في سنة 1993، إلا أنها حافظت على مستوى العلاقات الدبلوماسية عند المستوى القنصلي حتى سنة 1992. كما لم تشهد العلاقات الثنائية بين البلدين تطورات جوهرية طوال هذه العقود.

وبالإضافة إلى العوامل الدولية، فقد لعب العامل الداخلي المتمثل في وجود أقلية مسلمة كبيرة في الهند، دورًا مهمًا في تأجيل الانفتاح الهندي على إسرائيل. ورغم تراجع الأهمية النسبية لهذا العامل كمحدد في السياسة الخارجية الهندية تجاه إسرائيل في الفترة الحالية، إلا أن هذا العامل كان له تأثيره المهم في السنوات الأولى بعد تأسيس الدولة الهندية لأسباب تتعلق بحرص الهند على إثبات جدارة "نظرية الدولة الواحدة والأمتان"، وجدارة نظرية "الديمقراطية العلمانية" كإطار سياسي للدولة الهندية الجديدة، ولأسباب تتعلق بقوة العلاقات الهندية- العربية خلال تلك المرحلة.

ومن ناحية أخرى، فقد أدى وجود أقلية يهودية محدودة داخل الهند إلى ضعف تعاطف حركة التحرر الوطني الهندية قبل الاستقلال مع المسألة اليهودية. فرغم تفهم القيادات الوطنية الهندية للطموحات اليهودية في إقامة وطن خاص بهم، إلا أن حزب المؤتمر انتقد اعتمادهم على "الإمبريالية" البريطانيةلإنجاز هذا الطموح، الأمر الذي أدى إلى نظرة الحزب لدولة إسرائيل باعتبارها مشروعًا استعماريًا([1]). كذلك، فإن ضعف العلاقات الهندية- الأمريكية خلال تلك المرحلة، وضعف العلاقات الهندية مع اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة، أدى بدوره إلى ضعف تأثير هذا اللوبي على السياسات الهندية تجاه إسرائيل.

ولم تنجح المساعدات العسكرية الإسرائيلية للهند خلال عقود الستينيات، خاصة خلال المواجهات الهندية- الصينية، والحروب الهندية- الباكستانية، في تغيير التوجهات الهندية تجاه إسرائيل، كما لم تؤد معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية سنة 1979 إلى إدخال تغيرات جوهرية على هذه التوجهات([2]).

وعلى العكس من الفترة من الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات، فقد شهدت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات بداية انفراجة واضحة في العلاقات الهندية- الإسرائيلية، عكست تحولًا هيكليًا في توجهات السياسة الخارجية الهندية تجاه إسرائيل.

2- لماذا الانفتاح الهندي على إسرائيل؟

كما هو الحال فيما يتعلق بالمرحلة من الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، فقد ارتبط التحول في اتجاهات السياسة الخارجية الهندية تجاه إسرائيل بالتحولات المهمة التي طالت النظام الدولي والسياسات الدولية والإقليمية بدءًا من أواخر الثمانينيات والتي تمثلت بالأساس في انهيار الاتحاد السوفيتي (الحليف الرئيسي للهند خلال فترة الحرب الباردة)، وتراجع الأهمية النسبية لأفكار ودور حركة عدم الانحياز، وبدء عملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط، الأمر الذي دفع بالنخبة الحاكمة في الهند آنذاك إلى إعادة التفكيرفي جدوى الالتزام بمجموعة المحددات التي حكمت العلاقات الهندية- الإسرائيلية خلال العقود السابقة، من وجهة نظر المصلحة الوطنية الهندية.

أ- فمن ناحية، دفع انهيار الاتحاد السوفيتي بالنخبة الحاكمة في الهند إلى التخلي عن سياسة عدم الانحياز، وإعادة النظر في علاقاتها مع الولايات المتحدة، الأمر الذي استتبعه بالضرورة إعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل كجزء من إعادة النظر في العلاقة مع الغرب. ومن ناحية أخرى، فقد أدى التغير الذي حدث في سوق النفط بدءًا من أواخر الثمانينيات، خاصة تحول تلك السوق من "سوق منتجين" إلى ما عُرف بـ "سوق المستهلكين"، بما تضمنه ذلك من تراجع في نفوذ الدول العربية المصدرة للنفط، ومن ثم تراجع عامل النفط كمحدد في علاقات الدول المستوردة للنفط بالدول العربية وبإسرائيل، أدى إلى تحرر الهند نسبيًا من الانفتاح على العدو التقليدي للعرب آنذاك، والمتمثل في إسرائيل.

ب- ثم جاءت عملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط، والتي دشنها مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، لتمثل نقطة تحول مهمة في توجهات الهند نحو إسرائيل، فقد أدت مشاركة معظم الدول العربية في المؤتمر واندماجها في تلك العملية- بصرف النظر عن نتائجها الفعلية- إلى رفع الحرج "الأخلاقي" و"القيمي"عن صانع السياسة الخارجية الهندية في اتخاذ قرار الانفتاح على إسرائيل. وقد اكتسبت عملية السلام تلك أهمية أخرى بالنسبة للهند، إذ حرصت على المشاركة فيما عرف بالمفاوضات متعددة الأطراف، وذلك بالنظر إلى مصالحها المختلفة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة اللجان المعنية بقضايا الأمن الإقليمي وضبط التسلح. وقد حاولت الهند من جانبها رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية تدريجيًا، إلا أن إسرائيل أصرت على العلاقات الدبلوماسية الكاملة، كشرط مسبق للمشاركة في هذه المفاوضات، وهو ما اضطر الهند إلى القبول بذلك.

ج- بالإضافة إلى العوامل المتعلقة بتحولات النظام الدولي والداخل الهندي، فقد كانت هناك مجموعة من العوامل المهمة المرتبطة بالسياسات العربية تجاه منطقة جنوبي آسيا. فقد شهدت السياسات العربية، خاصة الخليجية، تراجعًا ملحوظًا في الأهمية النسبية لمشكلة كشمير كمحدد للسياسات العربية تجاه منطقة جنوبي آسيا([3])، الأمر الذي أدى بدوره إلى تحرر الهند نسبيًا من المحدد العربي في توجهاتها بشأن القضايا والمصالح العربية. وقد جاء تراجع الأهمية النسبية لمشكلة كشمير كمحدد للسياسات العربية تجاه الهند وباكستان نتيجة عوامل عدة، أبرزها تطور القدرات النووية لطرفي الصراع، ما أدى إلى مزيد من بارجماتية الدول الخليجية والعربية وتخليها عن الانحياز النسبي بجانب باكستان. كما تأكد هذا التراجع لاحقًا بفعل عاملين آخرين. الأول هو ما فرضته أحداث سبتمبر 2001 من تداخل بين الحرب ضد الإرهاب وقضية كشمير بسبب وجود العديد من التنظيمات الإسلامية المتشددة في كشمير، وتطور بيئة دولية لا تقبل الخطاب المؤيد لتلك التنظيمات بشكل صريح أو ضمني. الثاني هو عملية التطبيع التي انطلقت في عام 2004 بين الهند وباكستان. وعلى الرغم من تعثر تلك العملية لاحقًا إلا أن آثارها لاتزال قائمة.

د- ولم يكن لهذه التحولات الموضوعية أن تؤتي آثارها بهذه السرعة لولا تضافر عوامل داخلية أخرى مهمة، كان على رأسها انتهاج الهند، بدءًا من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، سياسة التحول إلى القطاع الخاص والإصلاح الاقتصادي. وقد تسارع هذا التوجه على خلفية أحداث الغزو العراقي للكويت وتداعياته، خاصة ارتفاع أسعار النفط من 17 دولار في منتصف يوليو 1990 إلى 46 دولارا للبرميل في منتصف أكتوبر 1990، بالإضافة إلى اضطرار آلاف الهنود اللذين يعملون في دول الخليج العربي للعودة إلى الهند. فقد أدى هذان التطوران إلى خلق ضغوط كبيرة على الموازنة العامة الهندية، ما اضطر الحكومة الهندية إلى تسريع برامج الإصلاح الاقتصادي([4]). وقد كان لهذه التطورات تأثيرها المهم فيما يتعلق بالانفتاح الهندي على إسرائيل من زاوية محددة؛ فتوفير شروط مشجعة لبرنامج وخطط الإصلاح الاقتصادي كان يتطلب علاقات جيدة مع المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، وهو ما كان يتطلب بدوره علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وكما هو الحال في الكثير من الحالات، فقد مثلت إسرائيل مدخلًا مهمًا لتطوير العلاقة مع الولايات المتحدة.

هـ- ومع أهمية الدوافع الهندية وراء الانفتاح الهندي على إسرائيل، لا يمكن إغفال الدوافع الإسرائيلية أيضًا في هذا الإطار. ويمكن الإشارة هنا إلى دافعين رئيسيين:

الأول، يتعلق بالدافع السياسي المتمثل في السعي الإسرائيلي الحثيث لتوسيع علاقاتها الخارجية بشكل عام، وعلى القوى الإقليمية ذات العلاقات التاريخية مع الدول العربية، بشكل خاص، والتي انتهجت سياسات خارجية مؤيدة للقضية الفلسطينية، حيث تكتسب الهند هنا موقعًا خاصًا بالنظر إلى علاقاتها التاريخية المهمة مع العالم العربي، والتي انتهجت سياسة خارجية استندت إلى مبادئ تتعلق بمواجهة الاستعمار ودعم الحقوق الفلسطينية، والتعامل مع إسرائيل باعتبارها "مشروعًا استعماريًا غربيًا". ومن ثم فقد مثلت الهند نقطة ارتكاز مهمة في تصفية إرث هذه المرحلة.

الدافع الثاني، يتعلق بأهمية الهند كسوق لصادرات السلاح الإسرائيلي. ولا يقتصر الأمر هنا على ما مثلته الهند من مصدر مهم لمبيعات السلاح الإسرائيلي من الناحية الكمية، إذ اكتسبت السوق الهندية أهمية نوعية أيضًا بالنسبة لإسرائيل. فقد ارتبطت تجربة صادرات السلاح الإسرائيلية بتركزها في أسواق اتسمت بسيطرة النظم السياسية الديكتاتورية التسلطية، مثل نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، ونظام سوموزا Somozaفي نيكاراجوا، ونظام بينوشييه Pinochetفي شيلي، ونظام ماركوس Marcosفي الفلبين، ونظام دوفاليير Duvalierفي هايتي، ونظام موبوتو Mobutuفي زئير، وغيرها من النظام التسلطية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية([5])، الأمر الذي انعكس سلبًا على صورة الصناعات العسكرية الإسرائيلية خلال تلك المرحلة. ومن ثم، فقد مثل فتح السوق الهندية أمام صادرات السلاح الإسرائيلية مدخلًا مهمًا لتغيير هذه الصورة السلبية حول الصناعة العسكرية الإسرائيلية بشكل عام، وحول وجهات صادراتها العسكرية بشكل خاص، وذلك بالنظر إلى اعتبار الهند واحدة من الديمقراطية الكبيرة والمهمة داخل الدول النامية. ولعل ما يؤكد أهمية الدافع العسكري بشكل عام، أن كل زيارات المسئولين السياسيين الإسرائيليين للهند، كان يسبقها أو يتبعها اتفاقات أو صفقات على مبيعات أسلحة إسرائيلية للهند.

3- إعادة قراءة التاريخ

على العكس من مرحلة ما قبل التسعينيات، والتي تميزت بالتركيز على عناصر الخلاف والتناقض بين البلدين، فقد ارتبطت مرحلة الانفتاح السياسي بإعادة قراءة تلك العناصر على نحو يبرز التشابه القوي بين البلدين. فمن ناحية، تحدثت النخب السياسية عن أن كلا البلدين يواجه بيئة إقليمية عدائية ضده، ففي الوقت الذي تواجه الهند عدوها التقليدي باكستان، بجانب عدد من التنظيمات الإسلامية المتشددة في جنوبي آسيا بشكل عام، فإن إسرائيل تواجه هي الأخرى نظمًا عربية عدة في الشرق الأوسط ذات توجهات "عدائية" ضدها، بالإضافة إلى التنظيمات الإسلامية المتشددة. من ناحية ثانية، فإن كل منهما يمثل طرفًا في صراع إقليمي اجتماعي ممتد ذي طبيعة دينية.

ثم جاءت أحداث سبتمبر 2001 لتعمق من هذا الإدراك لدى النخب السياسية في البلدين، وتضفي إليه بعدًا جديدًا، حيث تم التأكيد في هذا السياق على أن هناك تهديدًا مشتركًا لكلا البلدين متمثلًا في "الإرهاب الإسلامي" في إقليم واحد، وهو إقليم "الشرق الأوسط الكبير". وبالإضافة إلى ما سبق، فقد روج الطرفان لعناصر تشابه أخرى من قبيل أن كلًا منهما يعد نموذجًا لدول ديمقراطية علمانية في محيط إقليمي من الدول "غير الديمقراطية"- وفقًا لإدراكاتهما.

4- معادلة جديدة حاكمة للسياسة الهندية تجاه القضية الفلسطينية

وهكذا، وعلى الرغم من استمرار التزام الهند- كغيرها من الفاعلين الدوليين- بالدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في إنشاء "دولته"، ودعم عملية السلام، وغيرها من "ثوابت" الخطاب الدولي بشأن تلك القضية، فإن التحول الذي لحق بالعلاقات الهندية- الإسرئيلية تحت تأثير التطورات والعوامل السابقة، استتبعه خضوع السياسة الهندية تجاه القضية الفلسطينية لمعادلة جديدة اختلفت جوهريًا عن تلك التي حكمت هذه السياسة خلال مرحلة ما قبل التسعينيات. ونشير هنا إلى ملاحظتين مهمتين:

الأولى، هي انتقال السياسة الهندية تجاه القضية الفلسطينية، والصراع العربي- الإسرائيلي، والعلاقة مع إسرائيل، من النظرة الأيديولوجية إلى النظرة البارجماتية المصلحية، كما تحولت من سياسة تقوم على المباراة الصفرية إلى سياسة تقوم على إدارة التوازن بين العلاقة مع إسرائيل والمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية معها، من ناحية، والعلاقة مع السلطة الوطنية الفلسطينية والمصالح مع العالم العربي بشكل عام، من ناحية أخرى.

الثانية، أن الانفتاح الهندي على إسرائيل، وتراجع الأهمية النسبية للقضية الفلسطينية كمحدد في علاقات الهند مع كل من إسرائيل والعالم العربي لم يكن سمة أو ظاهرة مقصورة على الهند بقدر ما كان جزءًا من ظاهرة عالمية، إذ تبع التحولات العالمية- السابق الإشارة إليها- انفتاح العديد من القوى الآسيوية المهمة على إسرائيل، حيث تقدم الصين نموذجًا آخر لهذه التحولات. وقد جسد الموقف الهندي الداعم لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 17 ديسمبر سنة 1991 والذي ألغى قرارها السابق الخاص بالمساواة بين الصهيونية والعنصرية الصادر في سنة 1975، تعبيرًا عن حدوث هذا التحول العالمي وإعادة العديد من القوى الدولية النظر في علاقاتها التقليدية من إسرائيل. فقد أيدت الهند قرار سنة 1975 الذي ساوى بين الصهونية والعنصرية، ثم عادت وأيدت القرار الصادر في سنة 1991 الذي ألغى هذا القرار. وفي الحالتين كان موقف الجمعية العامة للأمم المتحدة، والهند، امتدادًا أو نتيجة للتحول في الموقف الدولي من تلك القضية. وقد بررت الهند موقفها بأن هذا القرار- قرار المساواة بين الصهيوينية والعنصرية- يمثل عقبة أمام استئناف عملية السلام في الشرق الأوسط، وهو ما كان يعني ضرورة العدول عنه إذا ما كان المجتمع الدولي يريد دفع عملية السلام في الشرق الأوسط وتفعيل دور الأمم المتحدة في تلك العملية([6]).

 [1]انظر مقتطفات من أحاديث للمهاتما غاندي في عام 1921، وجواهر لا نهرو في عام 1974 حول تلك المسألة في:

P. R. Kumaraswamy, "Israel- India Relations: Seeking Balance and Realism", Israeli Affairs, Autumn- Winter 2004, Vol. 10, Issue 1-2, p. 255-256.

[2] Efraim Inbar, "The Indian- Israeli Entente", Orbis, Winter 2004, pp. 89-90.

[3] حول موقف دول الخليج العربية من مشكلة كشمير انظر: أ. ك. باشا، "الهند ودول الخليج: التحديات والآفاق" (باللغة الإنجليزية)، ورقة مقدمة إلى ندوة "شبه القارة الهندية والخليج العربي"، قسم العلوم السياسية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الإمارات العربية المتحدة، العين، 21-22 أكتوبر 2002.

[4] Gil Feiler, "India's Economic Relations with Israel and the Arabs," Mideast Security and Policy Studies, No. 96, The Begin- Sadat Center for Strategic Studies, July 2012. P. 1-2. Available at: http://www.biu.ac.il/SOC/besa/MSPS96.pdf (accessed on 20 April, 2013). 

[5] Raja Swamy, "The Case against Collaboration between India and Israel", Monthly Review, 30/08/2006. http://www.mrzine.monthlyreview.org/swamy300806.html

[6] Itzhak Gerberg, India- Israel Relations: Strategic Interests, Politics and Diplomatic Pragmatism, Israel National Defense College, University of Haifa, Israel, Feb. 2012, p. 22-23.
* مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية