2024-05-03 02:38 ص

إردوغان يعيش في كهف “لوزان” التاريخي

2019-08-22
بقلم: عبير الحيالي
يقول ماركس “التاريخ يعيد نفسه مرتين.. في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة”. وإذا ما أردنا تطبيق قواعد المقولة الماركسية على ما يحدث اليوم من قبل تركيا اتجاه العالم العربي فنحن نعيش مرحلة المهزلة! حيث يرى رجب طيب إردوغان أن تركيا تخلت عن قيادة العالم الإسلامي حينما تخلت عن نفوذها في مصر وسوريا والعراق وليبيا بعد توقيع أسلافه العثمانيين على معاهدة لوزان. تم توقيع هذه المعاهدة في عام 1923 بين دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وبين تركيا التي عانت من هزيمة مريرة حينها، وحصل الأتراك بموجب هذه المعاهدة على الدعم الأوربي لتشكيل الدولة التركية الحديثة التي ورثت الدولة العثمانية وعاصمتها انقرة، على أن تحتفظ بالأناضول وتراقيا الشرقية (الجزء الغربي من تركيا الحالية). في مقابل أن تعترف تركيا باستقلال الدول والمناطق التي كانت تحت الاحتلال العثماني حينها، وطبعاً منها بلاد الشام ومصر والعراق وليبيا وغيرها، وبعد توقيع المعاهدة تحولت تركيا إلى دولة محدودة الحجم والإمكانيات بعد نفوذ امبراطوري استمر لستة قرون. ولأن للتاريخ أوجه مختلفة وروايات متنوعة يرويها كل طرف بطريقته الخاصة، ففي الوقت الذي اعتبر الأتراك احتلالهم للعالم العربي منذ 500 سنة “فتحاً اسلامياً”، وأن هذه الأراضي تابعة للإمبراطورية العثمانية ويجب أن تعود للوطن الأم، يعتقد العرب أن هذا الدخول “غزواً واحتلالاً” وأنهم يتمتعون بحضارة قديمة وعريقة وجذورهم ضاربة في عمق التاريخ وسابقة للوجود العثماني تاريخياً.

استثمر إردوغان في فوضى ما يسمى بالربيع العربي، والذي دعمته تركيا بقوة لإسقاط أنظمة الحكم في المنطقة تمهيداً لمخططها للسنوات التالية. ولم يكن من المستغرب أن يفصح عن رغبته في استعادة مجد “السيطرة العثمانية” على المدن العربية في أكثر من مناسبة، معتبراً أنها “جزء من أملاك تركيا” التي وصفها بأنها “سلبت” بسبب موافقة أسلافه على توقيع معاهدة لوزان. والآن، يسعى إردوغان وبعد نحو مائة عام للعودة الى الخارطة الجغرافية التركية لما قبل معاهدة لوزان، وهي الخارطة التي تشمل أجزاء من سوريا والعراق.

 وإذا ما تابعنا التحركات التركية في المنطقة بعد عام 2011، وجدناها تتماهى وتتماشى مع ما ذكر، حيث عمل الرئيس التركي على تكثيف الوجود الاستخباراتي والعسكري في جميع الدول العربية التي يعتقد أنها يجب ان تعود لحضن الدولة التركية.  فتدخل في سوريا والعراق وليبيا ومصر، كما دعم الفصائل المسلحة بمختلف توجهاتها. ففي أكتوبر 2016، تشكلت حملة عسكرية مشتركة لتحرير الموصل من قبضة “داعش”، أصرت تركيا في ذلك الوقت على المشاركة في الحملة وتوعد إردوغان بأن أي نقاش خاص بالموصل يجب أن يكون لتركيا دوراً به. رفض العراق واتهم تركيا بأنها تسعى إلى احتلال شمال العراق، وأن وجودها العسكري يهدد بإشعال حرب إقليمية. وتحت ذريعة محاربة تنظيم داعش وتحجيم دور الأكراد حفاظاً على الأمن القومي التركي، تمكن الأتراك وبمؤازرة من الميلشيات المسلحة التابعة لها منذ عام 2016 من تنفيذ عمليتين عسكريتين، أولهما “درع الفرات” والثانية “غصن الزيتون” أسفرتا عن احتلال ما لا يقل عن 4000 كم من الأراضي السورية. توسعت رقعة النفوذ التركي شمالي سوريا، وسيطرت على مجموعة من المناطق الاستراتيجية بداية من جرابلس والراعي والشريط الحدودي بينهما وصولاً إلى مدينة الباب شمال شرقي حلب. وقامت بإشارة واضحة على احتلالها لهذه المدن بمجموعة من التغييرات الجذرية الحساسة مستخدمة سياسة التتريك الممنهج، وربما خير مثال ما حصل في مدينه عفرين من تغيير ديمغرافي وفقدان كامل للهوية السورية. كانت الغاية من هذه التغييرات تحضير الأجواء الشعبية والإدارية لاستفتاء شعبي مستقبلي لصالح ضم هذه المدن الى تركيا. كما يحاول الآن إردوغان إبرام اتفاقيات مع الجانب الأمريكي للدخول على منطقة شرق الفرات واحتلالها تحت ذريعة “المنطقة الآمنة”.

يراهن إردوغان على المتغيرات الكبرى التي تساعده في رسم خرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وهذه المتغيرات عادة تترافق مع انهيار الدول والحروب الكبرى كتلك التي تلت الحرب العالمية الأولى، مما سيعطيه الفرصة للجلوس على طاولة مفاوضات جديدة وعقد اتفاقيات مغايرة لتلك التي عقدت في لوزان قبل مئة عام. كما يراهن على أن معظم اتفاقيات عصبة الأمم يتوقف العمل بها بعد مئة عام، لكن كل ما يثار عن تحديد مدة للاتفاقية بمئة عام ليس صحيحاً، ولا يوجد في القانون الدولي ما يشير إلى أنّ صلاحية الاتفاقيات تنتهي بعد مئة عام.  وفي حالة اتفاقية لوزان، لم تتضمن الاتفاقية مدة لصلاحيتها. في قراءة سريعة لتحركات أنقرة في المنطقة، يمكننا القول إن إردوغان يعلم تماماً أنه لن يتمكن من استعادة جميع الأراضي التي كانت تحت الاحتلال العثماني ولذلك هو يركز على قضم بعض الأراضي من سوريا والعراق فقط مما يساعده على تجاوز أزماته الداخلية وحفظ ماء الوجه امام الناخب التركي.

باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية



رأي اليوم