2024-05-09 08:11 ص

من الأندلس إلى المدينة المنورة.. قصائد مدح النبي المحملة بالشوق و«جميل الاعتذار»

2022-07-08

إيثار جمال
بشائرُ صبحِ السرى آذنت بأَنَّ الحبيبَ تَدانيَ مَزَارا

جرَىَ ذكر طَيبةَ ما بَينَنَا فلا قَلبَ في الرّكبِ إلا وطَارا

حنينًا إلى أَحمدَ المصطفى وشوقًا يَهيجُ الضُّلوعَ استِعارا

 إليك إليك نبي الهُدى رَكبتُ البِحار وجبتُ القِفارا

كتب ابن جبير الشاطبي هذه القصيدة قبيل وصوله إلى الأراضي المقدسة يصف فيها طريقه الطويل نحو الحجاز ليؤدي فريضة الحج، ويصف شوقه ومن معه إلى زيارة قبر النبي محمد، وعلى كثرة الراحلين من شتى البلاد ليؤدوا الفريضة كان أهل الأندلس يقطعون الطريق الأطول، ويكابدون مشقة أكبر ليصلوا إلى هناك، وربما من هنا عُرفوا بشوقهم الطويل إلى المشرق بشكل عام وهو مهد حضارتهم ووطنهم الأول.

كان لدى الأندلسيين إعجاب بالمشرق وحنين إليه؛ حتى إنهم أطلقوا على عدد من مدن الأندلس الأسماء ذاتها التي حملتها مدن في الشرق، وأطلقوا على الشعراء أحيانًا ألقاب شعراء الشرق، وظل لبلاد الحرمين شوق خاص يحمله لها أهل الأندلس، وهي التي ظلت بعيدة المنال إذ لم يكن بوسع كثير منهم قطع القفار التي قطعها ابن جبير على صعوبتها، كانت الرحلة طويلة ومكلفة يمرون فيها ببلاد شمال أفريقيا ثم مصر إلى أن يصلوا إلى الحرمين الشريفين.

تلك المسافة الطويلة منعت كثيرين منهم إذن فكان الشعراء منهم يكتبون قصائد طويلة حمَّلوها شوقهم إلى زيارة قبر النبي محمد، في ظاهرة «المدائح النبوية» وشعر التشوُّق، وكانوا يرسلونها مع الرحَّالة الأندلسيين، عبَّروا فيها عن الشوق للشرق وللحجاز خاصة، وكان موسم الحج وموعد انطلاق القوافل يهيج الحنين لدى الشعراء فيصيغون قصائدهم وينسجونها أحيانًا لترسل مع القوافل، وقد شارك فيها المشاهير والمغمورون من الشعراء على السواء، كما كتبها بعض من أسعدهم الحظ بالحج مرة، ومن لم يتمكن من بلوغ الديار المقدسة أبدًا.

قصائد الشوق الأندلسية: «وطن بديل» واستغاثة بالنبي
كتب الدكتور محمد زكي مبارك يصف أهل الأندلس بأنهم من أرق الناس شوقًا إلى زيارة قبر النبي محمد، في مرحلة ما من تاريخ الأندلس، وقد كانت هناك عدة أسباب خلف رقة هذا الشعور، أسباب نفسية وسياسية وحتى اجتماعية؛ كما لو أنه قد بدا لهم ما سيؤول إليه مصير الدولة الأندلسية، كانت المدن تسقط في يد النصارى فتتجه قلوب أهلها إلى وطن بديل يتوقون لزيارته.

كما يذكر الباحث السعيد قوراري في رسالته «الحنين إلى الديار المقدسة في الشعر الأندلسي» فقد رأى الأندلسيون أن وجودهم سيؤول في النهاية إلى خبر كان، وهكذا رأوا في الديار المقدسة وطنًا آخر يحنون إليه ويرون ابتعادهم عنه ذنب لا يُغتفر، وفي الحقيقة فإن نزعة الحنين في العموم، ضاربة بجذورها في الأشعار الأندلسية، حتى إنها تبدو في أشعار بعضهم ممن هاجر من مدينته إلى مدينة أندلسية أخرى. 

يرتبط هذا الحنين أيضًا بالطبيعة الأندلسية الجميلة، الرياض والأزهار والمتنزهات، كما يرتبط بالحياة الاجتماعية من عادات وجلسات طرب وأنس يصعب نسيانها، وفي مقابلها أيضًا دعوات التصوف والزهد التي ازدهرت في السنوات الأخيرة من تاريخ الأندلس، خاصة بعد سقوط الدولة الأموية.

في كتاب «المدائح النبوية في الشعر الأندلسي» تذكر فاطمة عمراني كيف كان شعر المديح بشكل عام يكثر ويزدهر حين تعصف الاضطرابات بالأمة، فتضطرب الأحوال السياسية وتشيع الخلافات بين الأمراء والحكام، أو حين تتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وكان السبب الأبرز أن يقترب خطر عدو خارجي من أطراف البلاد الإسلامية وقد شاع بين أهل الشرق خلال الحروب الصليبية وحروب المغول.

وكانت ظروف الأندلس وحالة الجهاد التي عاشها أهلها باستمرار خاصة في عصر دولة الموحدين حين راحت مدن الأندلس تسقط في يد النصارى تباعًا، أدعى للاستغاثة فتطلعت قلوبهم إلى الديار المقدسة، وإلى شمائل النبي وسيرته يستمدون منه الشجاعة والصبر والثبات، ويستغيثون به لإنقاذهم من المحنة، كان هذا فضلًا عن بعد المسافة التي جعلت شعراء الأندلس يكتبون عن شوقهم إلى الديار المقدسة، وهي قصائد تنتمي إلى ما يسمى بشعر التشوق، لكنها تدخل جميعًا في شعر المديح النبوي بشكل عام. 

كانت قصائد أهل الأندلس تتميز، فضلًا عن شوقهم البالغ إلى زيارة قبر النبي، بما تضمنته من استغاثات من تخاذل الحكام المسلمين في الشرق عن نصرتهم، فكان بعض الحكام الأندلسيون يرسلون مع الهدايا التي تحملها القوافل إلى أمراء مكة رسائل إلى النبي محمد، يؤكدون فيها إخلاصهم للدين الإسلامي، ويتضرعون إلى الله في أزماتهم. 

وكان الملوك أيضًا يلجأون لتلك الرسائل في مواجهة عجزهم عن إنقاذ البلاد، وبالمثل كان العامة؛ يتناول المقري في كتاب «أزهار الرياض في أخبار عياض» قصة ذلك الرجل القرطبي العليل الذي طلب من أحدهم أن يكتب له رسالة إلى قبر النبي محمد، يشكو له فيها عجزه ويطلب شفاعته، فكتب له محمد بن أبي الخصال رسالة مع قصيدة، ويروي المقري أن الرجل شُفي من مرضه حين وصلت رسالته إلى القبر الشريف.  

ولما رأى الزوار يبتدرونه وقد عاقه  عن قصده عاتق الضعف

بكى أسفًا واستودع الركب إذ غدوا تحية صدق تفعم الركب بالعرف

فيا خاتم الرسل الشفيع لربه دعاء أخلص النجوى وأيقن بالعطف

وكان الملوك يعتذرون عن تأجيل الزيارة لانشغالهم بالزود عن أرض الإسلام، وكانوا يلجأون للشعراء أيضًا ليكتبوا لهم قصائد تصف الشوق والعذر وتستنجد بشفاعة النبي، فكتب الشعراء أيضًا لملوكهم أفصح القصائد، كان بينها مثلًا ما كتبه لسان الدين بن الخطيب على لسان السلطان يوسف بن نصر، ثم لاحقًا لابنه السلطان محمد الخامس، وقد تضمنت كل منهما شعرًا ونثرًا كُتب بعناية:

وعذري في تسويف عزمي ظاهر إذا ضاق عذر العزم عمن يلومه 

عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا جلالقة الثغر الغريب ورومه 

أجاهد منهم في سبيلك أمة هي البحر يعيي أمرها من يرومه 

فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى لريع حماه واستبيح حريمه 

فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته فمجدك موفور النوال عميمه

أشهر قصائد المديح النبوي الأندلسية
على كثرة ما وصل إلينا من قصائد المديح النبوي الأندلسية فقد ضاعت أغلب هذه القصائد والدواوين التي تبارى الشعراء في كتابتها بعيونهم الدامعة المتطلعة إلى الركب المتجه دونهم نحو الأراضي المقدسة، وتميزت قصائدهم بالطول ربما لثقل ما تحمله من عواطف جياشة، وهنا بعض القصائد التي حفظتها لنا الوثائق:

«وسرنا نحن أرواحا»
شدُّوا المطي وقد نالوا المُنى بمنى وكلُّھم بألیم الشوق قد باحا 

سارت ركائبھم تُنْدي روائحھا طیبًا بما طاب ذاك الوفد أشباحا

نسیم قبر النبيِّ المصطفى لھم روحٌ إذا شربوا من ذكره راحا 

یا واصلین إلى المختار من مُضر سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا

 إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عُذْر كمن راحا

كتب هذه القصيدة أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف في مدينة المرية بالأندلس، وكان من كبار علمائها، وبعد أن حفظ القرآن مال إلى الزهد وأصبح أحد أعلام التصوُّف، كان التصوف قد صار ملاذًا لكثيرين في مواجهة هجوم القشتاليين على المدن الأندلسية من ناحية وانصراف الحكام عن أمور الجهاد وانشغال كثيرين منهم بمصالحه من ناحية أخرى.

وكان ابن العريف العائل الوحيد لأسرته فلم يكن في إمكانه الابتعاد عنهم كثيرًا حتى إنه امتنع أحيانًا عن الذهاب إلى قرطبة أو إشبيلية للقاء معارفه، إذ لم يكن في وسعه توفير نفقاتهم لحين عودته، وهكذا صار السفر أمنية لم ينلها.

أقبل المريدون وأهل العلم على مجلس ابن العريف، وتقول المصادر إن قاضي المرية المعروف بابن الأسود غار من نفوذ الرجل والتفاف الناس حوله؛ فأرسل إلى السلطان علي بن يوسف في مراكش يخوِّفه. 

استدعى السلطان ابن العريف إلى مراكش وعندما التقى به تبين له أن الرجل لا يستحق العقوبة فأطلق سراحه، لكن القدر لم يمهله ليعود إلى مدينته في الأندلس، فتوفي ابن العريف في مراكش سنة 536هـ، وقيل إنه مات مقتولًا حين نجا من الوشاية به لدى السلطان في المغرب؛ فدس له أحدهم السم في طعامه، واجتمع في جنازته عدد كبير وقبره معروف إلى اليوم في سوق العطارين، ويعرف عند العامة سيدي بلعريف. 

«قد عاقني عنها الزمان»
 يا سائرين ليثرب بلغتم قد عاقني عنها الزمان الأنكد 

 أعلمتم أن طرت دون محلها سبقًا وها أنا إذ تدانى مقعد 

لا طاب عيشي أو أحل بطيبة أفق به خير الأنام محمد 

صلى عليه من براه خيرة من خلقه فهو الجميع المفرد 

يا ليتني بلغت لثم ترابه فيزاد سعدًا من بنعمى يسعد 

يا خير خلق الله مهما غبت عن عليا مشاهدها فقلبي يشهد 

كان أبو الحسن بن سعيد الغرناطي الأندلسي أديبًا وشاعرًا ومؤرخًا، وقد استقرت عائلته في غرناطة منذ عصر ملوك الطوائف، ويعود نسبه إلى الصحابي عمار بن ياسر، قضى شبابه في إشبيلية، وخرج في رحلة إلى الحج بصحبة والده عام 638هـ، توفي والده في الطريق في مدينة الإسكندرية وواصل ابن سعيد الرحلة، فالتقى في القاهرة بالشاعر البهاء زهير، وبعد الحج وكما جرت عادة كثيرين من أهل الأندلس زار ابن سعيد العراق وسورية. 

استقر ابن سعيد في تونس بعد عودته وخرج منها في رحلة ثانية إلى المشرق لكن المصادر تذكر أنه وصل إلى إيران ولم يُعرف تحديدًا كيف قضى سنواته الأخيرة، وإن كانت بعض المصادر ترجح أنه عاد ثانية إلى تونس واستقر بها حتى وفاته. 

«برتني يد الأشواق»
من يشتريني بالبشرى ويملكني عبدًا إذا نظرت عيني إلى الحرم

يا أهل طيبة طاب العيش عندكم جاورتم خير مبعوث من الأمم 

كان مالك بن المرحل الأندلسي أحد أشهر شعراء الأندلس في عصره أيضًا، وقضى أغلب سنوات حياته في سبتة حين كانت أهم المراكز الثقافية في المغرب والأندلس، وقد كتب في فن المولديات التي كانت تنشد في ذكرى المولد النبوي في الاحتفالات الأندلسية، كما كتب في فن الحجازيات، عاش المرحل في عصر الدولة المرينية التي كانت تعد أزهى عصور المغرب والأندلس الثقافية. 

برتني يد الأشواق بريًا وكيف لا.. ومثواه في شرق ومثواي في غرب 

عاش المرحل في مالقة، وتجول في مدن الأندلس والمغرب، وعاش أغلب سنوات عمره في مدينة سبتة يعمل في كتابة الرسائل للأمير عبد الواحد بن السلطان يعقوب المريني، وكان من شعراء السلطان يوسف بن يعقوب المريني، كتب مالك بن المرحل مؤلفات في النحو والبلاغة، إلى جانب قصائده، عاش ابن المرحل 95 عامًا، واشتهرت قصائده بين الصفوة والعامة وتغنى بها المغنون في مجالس الطرب التي عُرف بها أهل الأندلس، توفي مالك بن المرحل عام 699 هـ في مدينة فاس. 

يا ركب مصر رويدًا يلتحق بكم.. قوم مغاربة لحم على وضم

وشعراء منسيون خلدهم مدح النبي
جمع الدكتور محمد زكريا عناني والدكتور أنور السنوسي قصائد ابن الصباغ الجذامي الذي عاش في فترة دولة الموحدين في الأندلس وظل منسيًّا لعصور طويلة، رغم ما تركه من مخطوطات كثيرة تضمنت موشحات وأشعارًا في الزهد والتصوف والحنين إلى الديار المقدسة، ومع ذلك لا يأتِ ذكر الرجل إلا بشكل عابر في بعض كتب التاريخ ولم تفصل المصادر في سيرته، ولم تذكر عنه سوى أنه كان فقيهًا وعالمًا مال إلى التصوف.

هل لي بتلك الطلول

من زورَةٍ ومقيل

يا قبرَ خيرِ رسول

متى يراك فيسعَد

صبٌّ ببُعدك مكمَد

يعد ابن الصباغ «الشاعر المنسي» وللصدفة فقد حمل لقب «ابن الصباغ» كثير من الشعراء والفقهاء من أهل الأندلس، ما جعل التحقق من ديوان الجذامي مهمة صعبة، لكنه قدم عددًا ضخمًا من القصائد والموشحات في المدائح النبوية.  

ابن جابر الأندلسي و8 آلاف بيت شعري في مديح النبي
كان ابن جابر الأندلسي أحد أشهر شعراء الأندلس الذين كتبوا في مدح النبي، وترك ديوانًا كاملاً يضم قصائده، وقد ولد في المرية عام 698هـ، ودرس القرآن والنحو والفقه، كان ابن جابر كفيف البصر وقد برع في الشعر، وصاحب أبا جعفر الإيبيري فكان يلازمه ويدوِّن له كتبه وأشعاره، كان لابن جابر مؤلفات عديدة في اللغة والبلاغة والنحو والعروض، وجُمعت قصائده في المديح النبوي في ديوان «العقيد في مدح سيد الكونين»، وتضمن نحو 8 آلاف بيت شعري. 

كتب ابن جابر قصائد في الشوق إلى زيارة البيت الحرام، وكُتب له أخيرًا أن يؤدي فريضة الحج فرحل مع صاحبه أبي جعفر الإيبيري الذي لازمه طوال حياته، بدأت الرحلة عام 738هـ لكنه لم يعد إلى الأندلس مرة أخرى، إذ أقام في دمشق ثم في ألبيرة حتى وفاته، وقد كتب عنه لسان الدين بن الخطيب يُعرِّف به أهل الأندلس:

رحلوا فكيف يطيب منك ثواء أم هل لداء الشوق منك دواء

قعدت بك الأيام فانتهضت بهم همم بها تتمسك الجوزاء

قوم تضيء مع الدجى عزماتهم حتى تميط قناعها الظلماء

فإذا هم سمعوا بذكر محمد طرد المنام تأوه وبكاء

تعددت موضوعات المدح التي تضمنها ديوان ابن جابر الأندلسي، وكان على رأسها الشوق إلى رؤية النبي، كما وصف التضحيات التي كان على الراحلين إلى مكة تقديمها لكي يمكنهم بلوغها، إلى جانب التعب والمشقة كان بعضهم يبيع كل ما يملك ليفي بثمن الرحلة.

لله قوم دموع العين قد سكبوا شوقًا إليه وجادوا بالذي كسبوا 

نفوسهم أتعبوا حتى إذا وصولوا أراهم وصْلَه أضعاف ما تعبوا 

كانت أشهر قصائد ابن جابر الأندلسي تلك التي مدح فيها النبي ووردت فيها أسماء سور القرآن الكريم كاملة وبالترتيب، كما تعددت البحور الشعرية التي كتب على وزنها؛ بحر الرجز، بحر الرمل، البحر الطويل، البحر الوافر، البحر المديد، البحر البسيط، البحر المنسرج، كأنما لتنال كل البحور شرف المدح.

وكم بحر شعر خضت فيه لمدحه فمن كل بحر درَّ معناه أخرج

تفننت في نظمي فأرجز تارة وأُرمل في مدح الرسول وأهزج

المصدر/ ساسة بوست