2024-05-16 02:11 م

هينري كيسنجر.. محطات في مسيرة مدمر الديمقراطيات

توفي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق – المثير للجدل – هنري كيسنجر، اليوم الخميس، عن عمر يناهز 100 عام في منزله بولاية كونيتيكت، وعُرف عن كيسنجر تورطه في العديد من الجرائم حتى إن بعض التقارير الحقوقية وصفته بمجرم الحرب، ومع ذلك حصل على جائزة نوبل للسلام.

يداه ملطخة بدماء ما لا يقل عن 3 ملايين شخص، بحسب تقارير، إذ كان له دور في إطالة أمد حرب فيتنام وتوسيع هذا الصراع إلى كمبوديا المحايدة، فضلًا عن تسهيل عمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا وتيمور الشرقية وبنغلاديش، وتسارع الحروب الأهلية في الجنوب الإفريقي، ودعمه الانقلابات وفرق الموت في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية.

محطات مهمة
ولد هاينز ألفريد كيسنجر في 27 مايو/أيار 1923 في ألمانيا لعائلة يهودية أرثوذكسية، وتقول بعض المراجع إنه هرب في أغسطس/آب 1938، إلى لندن، قبل وصوله إلى نيويورك يوم 5 سبتمبر/أيلول من نفس السنة، من “الاضطهاد النازي لليهود”، واكتسب هناك اسمًا جديدًا، وهو هنري كيسنجر، وأصبح في سن الـ20 مواطنًا وجنديًا أمريكيًا.

خضع كيسنجر للتدريب الأساسي في معسكر كروفت في سبارتانبرغ، بكارولينا الجنوبية، ثم نُقل إلى كتيبة المشاة 84، وبعدها انضم إلى فرع المخابرات الحربية، وخلال الحرب العالمية الثانية، كُلف كيسنجر، الذي كان مجرد جندي (أدنى رتبة عسكرية)، بإدارة مدينة كريفيلد، ويُعزى ذلك إلى نقص الناطقين بالألمانية في شعبة فريق الاستخبارات، ثم أُعيد تعيينه في فيلق مكافحة التجسس (سي آي سي).

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، انفصل كيسنجر عن الجيش، وتوجه إلى ميدان التعليم والسياسة، وفي سن الـ46 شغل منصب مستشار الأمن القومي، وكان ذلك في عهد الرئيس الأمريكي السابق، ريتشارد نيكسون.

في سنة 1973، تم تعيينه وزيرًا للخارجية خلفًا لوليام روجرز واحتفظ بكلا المنصبين، ويعتبر كيسنجر الشخص الوحيد على الإطلاق الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض ووزير الخارجية في نفس الوقت، وهو ما مكنه من فرض سيطرته على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خاصة أنه عمل قبل ذلك مستشارًا للرئيسين أيزنهاور وكيندي.

يعتبر هنري كيسنجر أول أمريكي وُلد خارج الولايات المتحدة يتولى منصب وزير الخارجية، واستمر في المنصب حتى بعد استقالة نيكسون بسبب فضيحة ووتر غيت عام 1974، وقدوم جيرالد فورد، وترك كيسنجر منصبه في أروقة السلطة مع تولي جيمي كارتر الرئاسة عام 1977.

أما بقاؤه في منصب مستشار الأمن القومي فامتد حتى 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، إذ حل محله الضابط برنت سكوكروفت، ويعتبر كيسنجر أقوى مستشار للأمن القومي في التاريخ الأمريكي، استنادًا للعديد من التقارير في هذا الغرض.

مجرم حرب
خلال فترة عمله وبعدها، انخرط كيسنجر في العديد من المؤامرات التي يمكن إثباتها وهي كثيرة، وهو ما يفسر مشاعر العداء والكراهية التي “يتمتع” بهما في معظم مناطق العالم، فضحاياه في كل مكان وبأعداد كبيرة.

سنة 2001، كتب المؤلف البريطاني – الأمريكي كريستوفر إيريك هيتشنز كتابًا بعنوان “محاكمة هنري كيسنجر”، وهو عبارة عن لائحة ادعاء جريئة ضد كيسنجر، ويطالب المؤلف من خلاله بمحاكمة كيسنجر كمجرم حرب بسبب جرائمه ضد الإنسانية خلال فترة خدمته في الإدارة الأمريكية.

ورأى كريستوفر هيتشنز أن السياسي الأمريكي كيسنجر يمثل نموذجًا من مجرمي الدول الكبرى، وعدّ في هذا الخصوص 6 تهم رئيسية يمكن تجريم كيسنجر بسهولة إزائها نظرًا لوجود الأدلة والبراهين والشهود، وفق قوله.

تتمثل هذه التهم وفق هيتشنز في: القتل المتعمد للمدنيين في الهند الصينية (فيتنام – كمبوديا – …)، والتآمر المتعمد في عمليات قتل جماعي وإعدامات في بنغلاديش، والانخراط شخصيًا في التخطيط لقتل مسؤول دستوري رفيع في دولة ديمقراطية (تشيلي) لم تكن في حالة حرب مع الولايات المتحدة.

من هذه التهم أيضًا الانخراط شخصيًا في مؤامرة لتصفية رئيس دولة ديمقراطية (قبرص)، فضلًا عن تسهيل ودعم حملات الإبادة في تيمور الشرقية، والانخراط شخصيًا في خطة لخطف ثم اغتيال أحد الصحفيين في واشنطن دي سي.

وسبق أن قال المحامي المتخصص بحقوق الإنسان ريد كالمان برودي والمعروف بـ”صائد الديكتاتوريين”: “بالنسبة لي ليس هناك أي شك في أن سياسته (في إشارة لكيسنجر) تسببت بمقتل مئات الآلاف وتدمير الديمقراطية في عدد من البلدان“، وأضاف “أنا مندهش لأنه أفلت من العقاب”.

قصف كمبوديا
نفهم من هنا أن صورة الرجل ذي الصوت الأجش، ما زالت مرتبطة بصفحات مظلمة في تاريخ الولايات المتحدة، خاصة أنه كان وراء القصف الجوي الأمريكي المركز لكمبوديا، الدولة المحايدة، في أثناء الحرب في فيتنام.

وخلص تحقيق أجراه موقع إنترسبت عام 2023 إلى أن كيسنجر – المهندس الرئيسي لسياسة الحرب الأمريكية في جنوبي شرقي آسيا من عام 1969 إلى عام 1975 – كان مسؤولًا عن مقتل عدد أكبر من المدنيين في كمبوديا مما كان معروفًا سابقًا، استنادًا إلى أرشيف حصري للوثائق العسكرية الأمريكية والمقابلات مع الناجين الكمبوديين والشهود الأمريكيين.

بين عامي 1969 و1973، قصفت الولايات المتحدة كمبوديا بوحشية، وكان وراء هذا القصف بالقنابل العنقودية، وزير الخارجية آنذاك هنري كيسنجر، لكنه توفي وهو يرفض الاعتراف بهذه الجرائم التي تسببت بموت مئات الآلاف من البشر.

وتشمل الحوادث الموثقة في السجلات وشهادات شهود العيان، وفق إنترسبت، كلًا من الضربات الجوية المتعمدة داخل كمبوديا وضربات غير مقصودة أو مهملة من الجنود الأمريكيين العاملين على الحدود مع جنوب فيتنام، وبحسب السجلات، لم يتم إنزال أي عقوبة شديدة للقوات الأمريكية التي قتلت وجرحت مدنيين.

وفقًا لبن كيرنان، الرئيس السابق لبرنامج دراسات الإبادة الجماعية بجامعة ييل، فإن كيسنجر مسؤول عن مقتل ما يصل إلى 150 ألف مدني، وهو أضعاف عدد المدنيين الذين قتلوا في الضربات الجوية الأمريكية في أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والصومال وسوريا واليمن.

وسمح هذا القصف للخمير الحمر باغتنام الفرصة وشن حرب ضد قوات الجنرال “لون نول” المدعوم من واشنطن، ودخلت كمبوديا بذلك في حرب أهلية، نتجت عنها موت مئات الآلاف من الكمبوديين، والخمير الحمر هو الاسم الشائع لأعضاء الحزب الشيوعي في كمبوديا (CPK) بقيادة السكرتير العام للحزب الشيوعي الكمبودي بول بوت.

دماء الفيتناميين
خلال تقلده منصب مستشار الأمن القومي سنة 1969، كانت واشنطن تدرس إمكانية الانسحاب من فيتنام نظرًا للخسائر الكبيرة التي تكبدتها في هذه الحرب، لكن كيسنجر كان له رأي آخر، إذ عمل على إطالة الحرب لمدة 4 سنوات إضافية.

أغرى كيسنجر وصديقه نيكسون الفيتناميين بصفقة أفضل إن انسحبوا من مفاوضات باريس مع الديمقراطيين، وهو ما حصل، إذ انسحب الوفد الفيتنامي من المفاوضات وكان هذا السبب الأبرز لوصول نيكسون للرئاسة الأمريكية.

لم يفِ كيسنجر بالوعد، وإنما مدد الحرب لـ4 سنوات إضافية، قُتل خلالها مئات الآلاف من الفيتناميين، فضلًا عن 20 ألف أمريكي آخر غير الذين قتلوا في السنوات السابقة. وكان أن توقفت الحرب بعد مباحثات جديدة في باريس ووفق اتفاق لم يختلف في جوهره عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه مبدئيًا سنة 1968.

ورافق هذه الحرب مجازر جماعية وقعت بحق المدنيين الفيتناميين، واستخدام النابالم الأمريكي لحرق مناطق شاسعة من القرى والغابات في الريف والجبال الفيتنامية، ومع ذلك لم يحاسب كيسنجر على هذه الجرائم، وإنما مُنح جائزة سلام لدوره في وقف هذه الحرب.

داعم للانقلابات
يعتبر كيسنجر داعمًا كبيرًا للانقلابات، وكانت البداية بتشيلي، ففي 11 سبتمبر/أيلول عام 1973، أطاح الجيش التشيلي بحكومة الرئيس سلفادور أليندي (أول رئيس منتخب في تاريخ أمريكا اللاتينية)، واستولت مجموعة من العسكريين، بقيادة أوغستو بينوشيه، على السلطة، منهية حكم المدنيين.

وفي أغسطس/آب الماضي، رفعت وزارة الخارجية الأمريكية السرية عن المزيد من الوثائق بشأن هذا الانقلاب العسكري الذي انتهى بقتل سلفادور أليندي، وكشفت الوثائق، التي رُفع عنها السرية بعد مرور 50 عامًا، أن ريتشارد نيكسون اطلع على خطة الاستيلاء العسكري الوشيك على الحكم في تشيلي آنذاك، الذي مهّد لديكتاتورية استمرت 17 عامًا.

كما ذكرت وثائق أخرى عديدة أن هنري كيسنجر كان من أبرز المشجعين لاستيلاء الجيش على السلطة في تشيلي، ومهد هذا الانقلاب لسيطرة أوغستو بينوشيه الذي عُرف بـ”جنرال واشنطن”، ودعمت الولايات المتحدة بينوشيه بلا حدود رغم انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان.

وخلال حكم بينوشيه الذي استمر 17 عامًا، سُجّل أكثر من 40 ألف شخص كضحايا لعمليات الإعدام أو التعذيب أو السجن السياسي أو الإخفاء القسري، وأُلقي القبض على بينوشيه في لندن عام 1998، لكنه لم يقض أي عقوبة في السجن بسبب جرائمه قبل وفاته، وبقي تحت الإقامة الجبرية في 2006.

تورط كيسنجر أيضًا في المحاولة الانقلابية التي وقعت في قبرص شهر يوليو/تموز 1974، حيث قامت الحكومة اليونانية بمحاولة السيطرة على الحكم في قبرص بهدف ضمها إلى اليونان، وردًا على ذلك شنت تركيا عملية عسكرية في الجزيرة بهدف حماية السكان الأتراك القبرصيين وضمان حقوقهم في الجزيرة.

وكان لكيسنجر دورًا في الانقلاب العسكري ضد الزعيم الإندونيسي أحمد سوكارنو في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وكان سوكارنو أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز ومن أشد أعداء الإمبريالية الأمريكية آنذاك.

ودعمت واشنطن سوهارتو ووقفت خلفه مقابل ولائه لها، وسمحت له بإطلاق يده في تيمور الشرقية، ومارس هناك إبادة سكانية طالت مئات الألوف من الأبرياء، وكان كيسنجر الغطاء الدبلوماسي الذي حماه ووفر له الأجواء السياسية العالمية للمضي في جرائمه.

دعم نظام التمييز العنصري
امتدّت الأدوار القذرة لكيسنجر لتصل لجنوب القارة الإفريقية، إذ ساهم السياسي الأمريكي في توطيد حكم التفرقة العنصرية في دولة جنوب إفريقيا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، مقابل أن تلعب جوهانسبرغ دور الشرطي الأمريكي في المنطقة.

وكان كيسنجر أول وزير خارجية أمريكي يزور جنوب إفريقيا منذ ثلاثة عقود، مقدمًا هيبة لنظام الفصل العنصري في أعقاب مذبحة سويتو سنة 1976، عندما قتلت الشرطة العشرات من طلاب المدارس المتظاهرين وآخرين.

أدت الزيارة إلى جنوب إفريقيا إلى إطالة عمر نظام الفصل العنصري، إذ كان من المهم لواشنطن أن تبقى جنوب إفريقيا البيضاء مستقرة بسبب التجارة والمعادن، عكس باقي الدول الإفريقية التي تحكمها الأغلبية السوداء.

كما كان لدبلوماسية كيسنجر “القذرة” دورًا كبيرًا في الحرب بأنغولا، وفق صحيفة “الغارديان”، إذ تقول الصحيفة إن وزير الخارجية الأمريكي متورط في تدخل غامض في أنغولا، من شأنه أن يعقد الصراع.

دعم الإسرائيليين
بعد أسبوعين من أداء كيسنجر اليمين كوزير للخارجية مع احتفاظه بمنصبه في البيت الأبيض كمستشار للأمن القومي، شنت مصر وسوريا حرب الـ16 يومًا التي بدأت في 6 أكتوبر 1973 بهجمات منسقة على الكيان الصهيوني من القاهرة ودمشق.

في هذه الحرب، أظهر كيسنجر دعمًا كبيرًا للإسرائيليين، إذ أشرف على جسر جوي أمريكي للأسلحة إلى الكيان الصهيوني، ما شكّل رادعًا للجيوش العربية المتقدمة، وإثر ذلك تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، وساهم كيسنجر في تحول القاهرة بشكل تام من الأحضان السوفيتية إلى الجانب الأمريكي، والتمهيد لاتفاقية السلام مع الاحتلال.

محاولة قصف كوبا
جرائم كيسنجر لم تتوقف هنا، إذ حاول قصف كوبا أيضًا، وفق ما كشفته وثائق حكومية حصل عليها باحثون أمريكيون، وأظهرت هذه الوثائق أن هنري كيسنجر، رسم خططًا “لسحق كوبا” بالقصف الجوي منذ نحو 40 عامًا.

ففي نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وعشية استقلال أنغولا، بدأت كوبا بتدخل عسكري واسع النطاق دعمًا للحركة الشعبية لتحرير أنغولا ضد تدخلات جنوب إفريقيا وزائير المدعومة من الولايات المتحدة دعمًا لاثنين من حركات التحرير الأخرى المتنافسة على السلطة في البلاد، وهو ما أثار حفيظة كيسنجر، الذي كان يشغل حينها منصب وزير الخارجية الأمريكي.

وتظهر الوثائق أن كيسنجر كان يتوق لأن تتصدى الولايات المتحدة لكوبا، وتعود الوثائق لمكتبة جيرالد فورد الرئاسية، وتظهر أن مسؤولين بالولايات المتحدة وضعوا خططًا للهجوم على موانئ ومنشآت عسكرية في كوبا.

كما كشفت الوثائق – التي ظهرت بعد طلب أرشيف الأمن القومي بعدم تصنيف بعضها – أن كيسنجر اتخذ بعض الإجراءات لتحريك قوات البحرية الأمريكية المتمركزة في القاعدة العسكرية الأمريكية في خليج غوانتانامو لضرب كوبا.

حتى مع ابتعاده عن مراكز الحكم، ظل كيسنجر وفيًا لدوره القذر، إذ فتح شركة استشارية “كيسنجر أسوشيتس”، يقدم من خلالها خدماته للحكام والحكومات، خاصة الديكتاتورية، بشأن كيفية تحسين صورتهم الإعلامية، فضلًا عن كيفية التعامل مع الأزمات السياسية التي يواجهونها.