2024-05-02 11:42 م

عبد الرحيم محمود: أشعار عن ضياع الأقصى والخذلان العربي

حرّض شاعر الوطنية وحارس الأرض إبراهيم طوقان على الثورة ضدّ المستعمر البريطاني والعصابات الصهيونية، إلا أن مرضه لم يسمح له بالمشاركة مباشرة في النضال المسلح ضدّ القوى التي انتهكت أرض فلسطين، لكن تلميذه عبد الرحيم محمود أخذ عنه المشعل وشارك إخوانه الكفاح.

نظّم عبد الرحيم محمود القصائد انتصارًا لفلسطين، وتعبيرًا عن حبّه الكبير لوطنه، وقرن القول بالعمل، فشارك أهله المقاومة ومضى في درب النضال المسلح، حتى استشهد في سبيل وطنه، وبقيت قصائده خالدة إلى اليوم.

اخترنا التعرف إلى شخصية عبد الرحيم محمود، وإسهاماته الشعرية نصرة للقضية الفلسطينية، ودوره في الكفاح المسلح الفلسطيني، ضمن ملف “حقائب الشعراء” الذي يلخص سير أقطاب الشعر العربي الذين تبنوا القضية الفلسطينية في مؤلفاتهم، ووثقوا مرحلة من مراحلها الفاصلة بقوالب أدبية مختلفة.

عائلة الفقهاء
قبل 4 سنوات من وعد بلفور المشؤوم، شهدت قرية عنبتا بقضاء طولكرم في فلسطين ولادة الشاعر والثوري عبد الرحيم محمود، وهو ابن للشاعر والفقيه الأزهري الشيخ محمود العنبتاوي، الذي يعتبر من ظرفاء الشعراء النافذين الذين تميزوا بقريحة ذهبية.

لمّا كان الشيخ محمود العنبتاوي من “عائلة الفقهاء”، حرص على تعليم ابنه العلام الحسن، ومكّنه من دخول المدرسة في قرية عنبتا حتى الصف الخامس، ثم نقله إلى مدرسة الفاضلية في طولكرم، فيما تلقّى تعليمه الثانوي في مدرسة النجاح الوطنية في نابلس (1928-1932).

تتلمذ محمود في مدرسة النجاح على يد الشاعر إبراهيم طوقان، وأصبح زميله فيما بعد، ما وطّد العلاقة بينهما، وكان محمود صيّادًا ماهرًا قنّاصًا للفرصة، إذ استغل معرفته بطوقان لتوطيد علمه وتنمية مهاراته اللغوية ومكاسبه الثقافية.

كان عبد الرحيم محمود فصيح اللسان قوي الحجّة وحسن الصياغة في فنون البلاغة كأستاذه وزميله إبراهيم طوقان، مستغلًّا جمال اللغة العربية وفصاحتها وأسلوبها الحسن ومزاياها الكثيرة، وقد أخذ من أساتذته الكثير ومن والده أيضًا.

إذ يُعرف عن والد عبد الرحيم أنه كان شاعرًا وفقيهًا دُرّس على يد مشايخ قرية عنبتا المعروفة بالانتماء إلى المذهب الحنبلي، وأكمل تعليمه الشرعي في الأزهر بمصر، وعمل إمامًا وخطيبًا وواعظًا ومستنطقًا في المحكمة الشرعية بمنطقته، ونظّم الشعر لنقد الواقع وهجاء المسؤولين المنبطحين للسلطة.

استشراف ضياع الأقصى
كان شاعرنا شديد النقد لواقعه المتأزّم، إذ يرى أن فلسطين ستضيع منهم دون أن يتحرك العرب والفلسطينيون لحمايتها، حتى أنه استشرف ضياع أولى القبلتَين وثالث الحرمين المسجد الأقصى، وسيطرة العصابات الصهيونية عليه.

في سنة 1935 زار الأمير (الملك لاحقًا) سعود بن عبد العزيز آل سعود فلسطين، وعرّج الأمير على قرية عنبتا مسقط رأس محمود، حيث لقي استقبالًا شعبيًّا لأهمية الدور السعودي في القضية الفلسطينية، وقدرة المملكة آنذاك على إقامة التوازنات في المنطقة.

خلال الاحتفالات التي أُقيمت لاستقبال الأمير السعودي، ألقى الشعراء القصائد الحماسية لبثّ الحماسة في صدور الفلسطينيين، وحثّ الأمير على نصرة فلسطين وعدم التفريط فيها، وكان من بينهم شاعرنا الذي قال في مطلع قصيدته: “يا ذا الأمير أمام عينك شاعر.. ضُمَّت على الشكوى المريرة أضلعُهْ.. المـسجد الأقصى أجئـت تزوره.. أم جئت من قبل الضـياع تودِّعُهْ؟.. وغدًا -وما أدناه- لا يبقى سـوى.. دمعٍ لنا يَهمِي، وسنٍّ نقرعُهْ”.

لكن لم يحرك الأمير السعودي ونظام دولته ساكنًا، وصدقت توقعات الشاعر، فضاع المسجد الأقصى بعد ذلك بـ 32 عامًا، وتحقّقت برامج الصهاينة نتيجة التقصير والخذلان العربي لما يقولون إنها قضيتهم المركزية الأولى، فمنذ أن بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين قبل أكثر من قرن، والمسجد الأقصى مهدَّد بالضياع والتهويد.

كفاح مسلح
تيقّن عبد الرحيم محمود أن انتظار عون من الخارج -يمكن ألا يأتي- لن يُجدي نفعًا، في ظل التمدد الصهيوني والمباركة الغربية للخطط اليهودية للسيطرة على فلسطين ومقدساتها الإسلامية، فقرر الانضمام إلى صفوف المقاومة المسلحة.

خلال فترة التحاقه بالمقاومة الفلسطينية ومواجهة العدو الصهيوني والبريطاني، تمنّى عبد الرحيم محمود الاستشهاد في سبيل وطنه، فالشعر وحده لا يكفي للدفاع عن أرض المقدسات، رغم أهميته الكبيرة ودوره المميز في استنهاض الهمم.

أول عهد عبد الرحيم مع السلاح كان سنة 1936، ففي تلك السنة عرفت فلسطين ثورة كبرى ضد الاحتلال البريطاني وسياساته في الهجرة اليهودية المفتوحة، وأطلق شرارة هذه الثورة التي امتدت إلى سنة 1936 الشيخ المجاهد عز الدين القسّام القادم من سوريا.

فور انطلاق الثورة، استقال عبد الرحيم محمود من وظيفته، وانضمَّ إلى صفوف المقاتلين في جبل النار، وشارك في العديد من المعارك ضد البريطانيين والعصابات الصهيونية التي كانت تسعى لتوطيد سيطرتها على الأراضي الفلسطينية.

تعرّض عبد الرحيم، عقب إنهاء الثورة الفلسطينية الكبرى، للمطاردة من الحكومة البريطانية، ما دفعه للهجرة إلى العراق حيث أمضى 3 سنوات، دخل فيها الكلية الحربية العراقية (أقدم أكاديمية ومنشأة عسكرية في العراق والوطن العربي).

تخرّج الشاعر والثائر الفلسطيني ضابطًا برتبة ملازم أيام الملك غازي بن فيصل بن الحسين، واستغل وجوده في العراق للمشاركة في ثورة رشيد عالي الكيلاني (ثورة مايس) ضدّ الجيش البريطاني، بهدف إقامة دولة عراقية مستقلة ذات سيادة.

من المعارك التي شارك فيها محمود أيضًا معركة “سن الذبان” في مايو/ أيار 1941، وكانت من أكبر المعارك بين المقاتلين العراقيين والمحتل البريطاني، وخلال مشاركته في هذه الثورة تطوّرت مهارات عبد الرحيم محمود القتالية، وكتب قصائد تعبّر عن إحساسه بمصاب أمّته العربية التي يحارب أبناؤها من أجل الاستقلال: “إن تسألوا عني الى من أنتمي.. فإلى رعاة النوق والأغنام.. أبغير مجد بني نزار ويعرب.. يزهى عراقي ويفخر شامي؟”.

لم يُكتب لهذه الثورة أن تنجح، فقرر الثوري الفلسطيني العودة إلى وطنه، واستغلّ انشغال البريطانيين بالحرب العالمية الثانية وتكبّدهم خسائر كبرى في العديد من الجبهات، ورجع إلى موطنه وعاد مدرّسًا بمدرسة النجاح الوطنية بنابلس، حاثًّا الفلسطينيين على الثورة وعدم الخنوع للمحتل.

سنة 1947 صدر قرار أممي بتقسيم فلسطين، وهو ما رفضه الفلسطينيون ودفعهم إلى الثورة، فانضمَّ محمود إلى جيش الإنقاذ الذي شكّلته الجامعة العربية، للتصدي للعصابات الصهيونية وتحرير الأراضي الفلسطينية وحمايتها من سطوة اليهود الصهاينة.

دخل شاعرنا إلى منطقة بلعا شرق مدينة طولكرم في فلسطين، وشارك في العديد من المعارك ضدّ الإسرائيليين، منها معركة “بيار عدس” مع سرية من فوج حطين، ومعركة رأس العين يوم 8 مارس/ آذار 1948، وفي أبريل/ نيسان من السنة نفسها عُيِّن آمرًا للانضباط في طولكرم، ثم مساعدًا لآمر الفوج في الناصرة.

رثاء نفس
تقدّم عبد الرحيم محمود الصفوف خلال القتال مع اليهود والبريطانيين، فالشهادة كانت غاية كل صاحب عقيدة، ومرسى كل سفينة تلاطمت بها أمواج الفكر والنظر، وهي برد القلب وطمأنينته ومنتهى الإيمان، ومرتقى الصدّيقين والأنبياء.

مضى شاعرنا في طريقه ورثا نفسه بنفسه حينما كان بالرابعة والعشرين من عمره، إذ قال: “سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي.. وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى.. فَإِمّا حَياةٌ تَسُرُّ الصَديقَ.. وَإِمّا مَماتٌ يَغيظُ العِدى.. لعمرك إنّي أرى مصرعي.. ولكن أغذّ إليه الخطى.. أرى مصرعي دون حقّي السليب.. ودون بلادي هو المبتغى”.

كتب عبد الرحيم محمود هذه القصيدة رثاء لأحد أصدقائه الذين استشهدوا في الثورة الفلسطينية (1936-1939)، إلا أنه كان المعنيّ الأول بها، إذ وضع صديقه مكانه لفترة قصيرة قبل أن يجد نفسه في ذلك المكان، حيث روحه في أعلى مراتب حرّيتها.

تحقق حلم شاعرنا واستشهد يوم 13 يوليو/ تموز 1948 في قرية الشجرة عن عمر قارب 35 عامًا، حيث أُصيب في عنقه بقذيفة عند هجوم فوج حطين على مستعمرة سجيره اليهودية المجاورة لقرية الشجرة العربية من أعمال طبريا، ودُفن في مدينة الناصرة.

افتدى عبد الرحيم محمود وطنه بنفسه، وتحقّقت له النهاية التي بحث عنها طويلًا وكان لا يبتغي سواها، وبقيت ذكراه وقصائده التي تكرّس لجملة المبادئ التي آمن بها واستشهد من أجلها، خالدةً حية في وجدان كل عربي حرّ يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية.

عائد عميرة | نــون بوســـت